شهر رمضان المبارك هو شهر الجود والإحسان، والتنافس في فعل الخيرات القولية والعملية، ومن جملة الخيرات القولية: التكلم بالقول الحسن، اللطيف غير المؤذي؛ إذ المعلوم أن الكلام الذي يتكلم به الإنسان مسجل محفوظ في كتاب لا يضل ربي ولا ينسى, وهذه حقيقة قررها القرآن الكريم في العديد من المواضع والآيات؛ ليكون الإنسان محاسباً لنفسه، مراقباً للسانه يقول الله - تبارك وتعالى -: {مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ}1, ويقول: {أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ}2, والآيات في هذا الصدد كثيرةً جداً، والمقصود هو تنبيه العباد إلى أن ما يصدر عنهم من أقوال تُسجل إما لهم وإما عليهم، فإذا ما التزم الإنسان القول الحسن في جميع أحواله لم يسجل في صحيفته إلا الخير الذي يسره يوم القيامة, والعكس بالعكس. ويأتي هذا الموضوع امتثالاً لأمر الله - تبارك وتعالى - الذي أمر عباده أن يتخيروا من الألفاظ أحسنها، ومن الكلمات أجملها فقال - تبارك وتعالى -: {وَقُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً}3 أي عند حديثكم إلى بعضكم لتشيع الألفة والمودة، وتسود روح الأخوة, وتندفع أسباب الهجر والقطيعة والعداوة قال يحيى بن معاذ الرازي - رحمه الله -: "ليكن حظ المؤمن منك ثلاث خصال لتكون من المحسنين: إحداها: إن لم تنفعه فلا تضره، والثانية: إن لم تسره فلا تغمه، والثالثة: إن لم تمدحه فلا تذمه"4. وقال الله - تعالى -: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلْإِنْسَانِ عَدُوّاً مُبِيناً}5 يقول العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي - رحمه الله -: "وهذا من لطفه بعباده حيث أمرهم بأحسن الأخلاق والأعمال والأقوال الموجبة للسعادة في الدنيا والآخرة فقال: {وَقُلْ لِعِبَادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ} وهذا أمر بكل كلام يقرب إلى الله من قراءة وذكر، وعلم، وأمر بمعروف ونهي عن منكر، وكلام حسن لطيف مع الخلق على اختلاف مراتبهم ومنازلهم، وأنه إذا دار الأمر بين أمرين حسنين فإنه يؤمر بإيثار أحسنهما إن لم يمكن الجمع بينهما. والقول الحسن داع لكل خلق جميل، وعمل صالح؛ فإن من ملك لسانه ملك جميع أمره. وقوله: {إِنَّ الشَّيْطَانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ} أي: يسعى بين العباد بما يفسد عليهم دينهم ودنياهم.، فدواء هذا أن لا يطيعوه في الأقوال غير الحسنة التي يدعوهم إليها، وأن يلينوا فيما بينهم لينقمع الشيطان الذي ينزغ بينهم؛ فإنه عدوهم الحقيقي الذي ينبغي لهم أن يحاربوه، فإنه يدعوهم {لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ}6، وأما إخوانهم فإنهم وإن نزغ الشيطان فيما بينهم، وسعى في العداوة؛ فإن الحزم كل الحزم السعي في ضد عدوهم، وأن يقمعوا أنفسهم الأمارة بالسوء التي يدخل الشيطان من قبلها, فبذلك يطيعون ربهم، ويستقيم أمرهم، ويهدون لرشدهم"7. وإن أحق من يعامل بهذا الخُلق الكريم هما الوالدان اللذان أمر الله - تبارك وتعالى - ببرهما والإحسان إليهما، ومن الإحسان إليهما اختيار الطيب من الأقوال عند الحديث إليهما {وَقَضَى رَبُّكَ أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَاناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُمَا أَوْ كِلاهُمَا فَلا تَقُلْ لَهُمَا أُفٍّ وَلا تَنْهَرْهُمَا وَقُلْ لَهُمَا قَوْلاً كَرِيماً}8, وجاء في الحديث عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: جاء رجل إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: يا رسول الله من أحق الناس بحسن صحابتي؟ قال: ((أمك)) قال: ثم من؟ قال: ((ثم أمك))، قال: ثم من؟ قال: ((ثم أمك))، قال: ثم من؟ قال: ((ثم أبوك))9، , وجاء عن عائشة - رضي الله عنها -: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: دخلت الجنة فسمعت فيها قراءة، فقلت: من هذا؟ قالوا: حارثة بن النعمان، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((كذلكم البر، كذلكم البر))10، وكان كثير من السلف إذا تكلم مع أمه لا يكاد يُسمع من شدة حرصه على خفض صوته تأدباً, وإننا لنعجب اليوم من حال شباب وفتيات يتعاملون مع والديهم معاملة فظة يرفعون فيها أصواتهم، وينهرونهم ويسيئون إليهم، ويؤذونهم بمنطقهم السيئ, حتى يخيل لمن رآهم ولم يكن يعلم أن هذا هو الوالد أو أن هذه هي الأم؛ أنهما خادمان يعملان لدى الأبناء؛ من شدة غلظة وقسوة الألفاظ التي يستخدمها الأبناء مع والديهم نسأل الله لنا ولهم الهداية. ومما لا شك أن الترفق في الألفاظ مطلوب أيضاً بين الزوجين فإن الأساس الذي تبنى عليه البيوت هو الرحمة والمودة {وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ}11, والزوجان محتاجان احتياجاً حقيقياً لأن يختار كل منها لصاحبه أحسن الألفاظ للتخاطب بها، وإبداء مشاعر الحب والرحمة تجاه بعضهما، وانظر إلى هذا الحديث الحاني بين النبي - صلى الله عليه وسلم - وأم المؤمنين عائشة - رضي الله عنها - كما في الصحيحين أنها قالت: قال لي رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((إني لأعلم إذا كنت عني راضية، وإذا كنت عليَّ غضبى)) قالت فقلت: من أين تعرف ذلك؟ فقال: ((أما إذا كنت عني راضية فإنك تقولين: لا ورب محمد, وإذا كنت غضبى قلت: لا ورب إبراهيم))، قالت: قلت أجل والله يا رسول الله، ما أهجر إلا اسمك"12، فأي رحمة هذه، وأي منطق حسن هذا!! قال عبيد بن عمير: أخبرينا بأعجب شيء رأيته من رسول الله - صلى الله عليه وسلم -، قال: فسكتت، ثم قالت: لما كان ليلة من الليالي قال: ((يا عائشة ذريني أتعبد الليلة لربي))، قلت: والله إني لأحب قربك، وأحب ما سرك قالت: فقام فتطهر، ثم قام يصلي، قالت: فلم يزل يبكي حتى بلَّ حجره، قالت: ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بلَّ لحيته، قالت: ثم بكى فلم يزل يبكي حتى بلَّ الأرض، فجاء بلال يؤذنه بالصلاة، فلما رآه يبكي قال: يا رسول الله لم تبكي وقد غفر الله لك ما تقدم وما تأخر؟ قال: ((أفلا أكون عبداً شكوراً، لقد نزلت علي الليلة آية ويل لمن قرأها ولم يتفكر فيها {إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ}13 الآية كلها))14. أخي الكريم: عوِّد لسانك الخير، واعلم أن الله - تبارك وتعالى - لم يبح لعباده الجهر بالسوء إلا في أحوال محددة كحالة التظلم فقال: {لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ وَكَانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً}15، وبالعموم فإن على المسلم أن يحسن التعامل مع جميع الناس قريبهم وبعيدهم, وأن يعوِّد لسانه النطق بالكلام الحسن, وتجنب الكلام القبيح. نسأل الله - تبارك وتعالى - أن يعيننا على طاعته ورضاه، ونسأله أن يوفقنا في جميع الأقوال والأفعال، وأن يسدد ألسنتنا, ويجنبنا الزلل في القول والعمل بمّنه وكرمه, والحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وآله وصحبه أجمعين
إعـــــــلان
تقليص
لا يوجد إعلان حتى الآن.
وقولوا للناس حسناً
تقليص
X
تعليق