فقدت الحركة الفنية والفكرية السورية صباح يوم الأربعاء واحدا من أبرز أركانها متمثلا برحيل شخص المخرج والمنتج السينمائي المبدع نبيل المالح الذي فارق الحياة عن ثمانين عاما بعد رحلة شغب وفوضى وضوضاء عنوانها الانتقاد ومحاولة التصحيح والتصويب لنصف قرن من الزمن.
وتم دفن جثمان فقيد السينما السورية والعربية، في مقبرة القوز في دبي حيث يقيم حاليا إثر خروجه من سورية قبل سنوات على وقع الحرب الدائرة في البلاد. إتصلنا بأبرز وأقرب أصدقاء الراحل، المخرج مأمون البني، والذي كان أول من نشر تفاصيل تداعيات الرحيل.
وقال البني للفن :"تم الدفن في تمام الساعة 4 من عصر الأربعاء". وتابع :"أما العزاء به فسيكون في الـ "تيكوم" بدبي بدءا من يوم السبت المقبل". وفي رثائه لصديقه، قال مأمون :"كيف تستطيع الكلمات أن تعبر عن فقدانك .. أنا عاجز أن أرثيك وعاجز أن أتحدث عنك، وعن صداقتنا، وعن أفلامك التي كنت دائماً تدهشنا بجديدك .. أنت نبيل المالح الفنان التشكيلي و المخرج السينمائي السوري القدير". وتابع :"أنت من أهم المبدعين السوريين الذين خطو للهوية السورية داخل وخارج الوطن. أنت الذي اتهمك النظام يوما أنك متعامل مع العدو فقط لأنك معارض وناشط في المجتمع المدني. في بيتك أنت وفي حي المهاجرين الدمشقي، كنت تجتمع مع رجال الفكر و الفن والسياسة، أنت بفقدانك بسطت مساحة كبيرة من الألم لا يُقلصها إلاّ إعادة مشاهدة أفلامك لتخفيف لواعج حزننا عن غيابك".
سيرة ليست عابرة: المالح، والمولود في العام 1936، ظل متفردا لوحده في النقد والانتقاد لكل ما يراه سلبيا في المجتمع السوري وبخاصة ما يتعلق برؤيته للحالة الفنية والفكرية السورية، فمات وهو ينتقد سلوك وأسلوب سير العملية السينمائية في دمشق صارفا جل وقته في التصريحات لمهاجمة مدير المؤسسة، والتي يؤدي بالضرورة إلى انتقاد السلطة السياسية التي تعتمد هذه المنهجية في التعاطي مع الحراك السينمائي. منذ ما قبل الحرب السورية، لم يوفر المالح نقيبا للفنانين في سورية إلا وهاجمه علنا، ولم يترك مديرا لمؤسسة السينما إلا وضربه على وتر النوم في أحضان السلطة، طارحا شعاره: "الفن والسلطة لا يجب أن يكونا متصالحين!!". كان أول من دعا لتحرير السينما السورية من المؤسسة العامة وتشكيل كيان سينمائي مستقل، والتحق به نجوم كبار في الدراما السورية وفي مقدمتهم بسام كوسا، لكن وبينما المشروع في طور الإطلاق، انطلق الحدث السوري في العام 2011 فكان أن غادر نبيل البلاد ليعيش في الخارج محافظا على نفس اللهجة التي تعاطاها مطولا في قلب دمشق. وصف المؤسسة العامة للسينما بأنها مزرعة يديرها الدكتور محمد الأحمد ووصفه بأنه لا يقبل إلا أفلاما محبة للنظام، ويرفض أي فيلم يطور وينور في المجتمع السوري. بقي هكذا، مع الأخذ بعين الاعتبار أن السلطات في دمشق ظلت تنظر له على أنه شخصية اعتبارية فلم تضايقه إلا ما ندر. من أبرز تصريحاته حول الازمة السورية وبعد أن انطلق الحراك في ربيع العام 2011 قال فيه لصحيفة إماراتية: "السلطة في سورية إذا رأت طائرا يحلق بحرية ستطلق عليه مدفعا وليس رصاصا وحسب".
في سجله يبرز فيلم الفهد في سبعينات القرن الماضي والذي أدى دور البطولة فيه النجم أديب قدورة، وحصل من خلاله المالح على جوائز دولية خولت الفهد أن يعتبر أعظم إنتاج عربي في تاريخ السينما، حتى قيل إنه لو توفرت أدوات وإمكانات مادية عالية للفيلم لكان اقتحم أسوا ر هوليود في تلك الحقبة. خاض في البرامج الوثائقية والتي شكلت بالنسبة إليه الهوية الفنية الشخصية، لكن سطوة أفلامه الروائية الطويلة جعلت الوثائقي بنظر الإعلام شيئا ثانويا. اشتغل معه أعمدة الفن في سورية من دريد لحام إلى نهاد قلعي ورفيق سبيعي وياسين بقوش وناجي جبر وعبد الطيف فتحي ونجاح حفيظ وباقي الجيل الذهبي. اشتغل روائيا وكاتب سيناريو من الطراز النادر، لكن دخوله للفن لم يكن مخططا له مسبقا بل جاء في لحظة فارقة في التاريخ لم تكن متوقعة. ففي حين كان في براغ لدراسة الفيزياء النووية، دعي لأداء دور كومبارس في فيلم تشيكي طويل، فتعرف إلى شيء اسمه السينما، فتخلى عن الفيزياء وتمسك بالفن وعاد إلى بلده دارسا السينما من باب أوروبي شرقي واسع. تمتع بصداقات كثيرة في الوسط الفني وباقي الأوساط الثقافية وحتى السياسية، لكن كثيرا ما اصطدم الآخرون بجرأته التي تخوله الانتقاد وجها لوجه، فخسر الكثير من الصداقات دون الشعور بأي ندم حيال ذلك طالما انه كان يقول ما في سره بالعلن. لديه عشرات الأفلام وكذلك المسلسلات وبخاصة الكوميدية الساخرة والناقدة بشدة، علما أنه مؤسس لعائلة المالح الفنية الشهيرة التي تمخضت عن الكثير من المخرجين الذين لم يبتعد أحدهم عن خانة المبدعين. ولد المالح في دمشق في 28 أيلول 1936 ودرس في مدارسها وبقي فيها حتى سن الخامسة والسبعين وغادر بعدها، لكنه بقي يتردد إليها بين الحين والحين.