من حسن إسلام المرء تركه ما لا يعنيه[1]
عن أبي هريرة - رضي الله عنه - قال: قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم -: ((من حُسْنِ إسلامِ المرءِ ترْكُه ما لا يَعنِيه))[2].
جوامع الكَلِم: أوتي النبيُّ - صلى الله عليه وسلم - جوامع الكَلِم، واختُصر له الكلام اختصارًا.ومن جوامع كَلِمه، ولوامع حِكمه، هذا الحديثُ الذي نحن بصدده، والذي نحاول بعون الله أن نكشف الغطاء عن بعض ما يُكِنُّ من دقائقَ وأسرارٍ، ولنبدأ بكلمات في إسلام المرء، وحُسن إسلامه، وما يَعنيه، وما لا يعنيه؛ فإنها المَنفَذ إلى مكنونات الحديث.أمَّا إسلام المرء، فهو انقيادُه لشرع الله الذي شرَع لعباده وتعبَّدَهم به؛ بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه، والوقوف عند حدوده وآدابه.وأما حُسن إسلام المرء، فهو قيامه على هذا الشرع، وتقبُّله له بجميل الرعاية، فيما أُمِر ونُهي، وأحبَّ وكَرِه، وتختلف مراتب الحسن باختلاف هذه الرعاية، فعلى قدْر ائتماره وانتهائه يكون إسلامه، كما أنه بحسب إخلاصه ويقينه يكون إيمانه، وتَبَعًا لهذا اختلف المسلمون قوةً وضعفًا، وحقيقةً وزعمًا؛ حتى سما بعضهم عن الملائكة الكِرام، وسفَل بعضهم عن بهيمةِ الأنعام، ﴿ وَالَّذِينَ اهْتَدَوْا زَادَهُمْ هُدًى وَآتَاهُمْ تَقْوَاهُمْ ﴾ [محمد: 17].
ما الذي يعني المرء؟ وأما الذي يعني المرءَ، فهو كل ما يُهِمه في دينه ودنياه، وآخرته وأُولاه؛ من علمٍ نافع، وعمل صالح، وسعيٍ حميد، إلى غرض مجيد.يَعني المرءَ في حياته أن يُقبِل على نفسه فيُهَذِّبها، ويستكمل فضائلها، وعلى عمله فيحسنَه ويُتقنه غير وَكِلٍ ولا كَسِلٍ، وعلى حقوق الله وحقوق عباده فيؤديها كاملة غير منقوصة.ويَعني المرء في حياته أن يُحسِن إلى أهله وعشيرته، بتعليمهم وإرشادهم، وتقويمهم وإصلاحهم؛ فإنه راعٍ لهم، واللهُ سائلُه عما استرعاه، وأن يُحسِن إلى أُمَّته وبلاده، فلا يدَّخر وُسعًا في رِفعتها وإعلاء شأنها، ولا يألو جهدًا في ابتغاء الخير لها؛ فإنه عضو منها، ولَبِنَةٌ في بِنائها، وإذا شُلَّ عضوٌ تداعت له سائر الأعضاء، وإذا سقطت لَبِنة أوشك أن يتصدَّع البناء.
الترويح عن النفس: ويدخل فيما يعني المرءَ ما يُروِّح النفسَ ويُجِمُّ القلب من عناء العمل وهموم الحياة، على ألا يجافي المُروءة، أو يُجاوز حدَّ الأدب، وقد كان - صلى الله عليه وسلم - يمزح ولا يقول إلا حقًّا[3]، وقد ضحِك حتى بدت نواجِذه[4]، وإن كان جُلُّ ضحِكه التبسُّم[5].ويُؤثَر عن علي - رضي الله عنه -: أجمُّوا هذه القلوب، والتَمِسوا لها ظُرفَ الحكمة؛ فإنها تَمَلُّ كما تمَلُّ الأبدان.والنفس - كما قال صاحب العقد -: "مُؤثِرة الهوى، آخذة الهوينى، جانحة إلى اللهو، أمّارة بالسوء، مستوطِنة للعجز، طالبة للراحة، نافرة عن العمل، فإن أكرهتَها أنضيتها[6]، وإن أهملتَها أرديتها"[7].ولا ريب أن الناس مختلفون فيما يَعنيهم، اختلافهم في النزعات والميول بما أودع الله كُلاًّ من عُدَّة، وما وَهَب لكلٍّ من هبة.
جماع القول فيما يعني المرء وما لا يعنيه: جماع القول فيما يعني المرء هو ما ينفعه في حاله ومآله، وعاجل أمره وآجله، و((كلٌّ مُيسَّر لما خُلِق له))[8]، وإذا عرف كل امرئ ما يعنيه، سَهُل عليه أن يعرف ما لا يعنيه، وبضدها تتميَّز الأشياء، فإذا لم يكن بدٌّ من قولٍ جامع لما لا يعني المرء، فهو: كل ما لا يُهِمه في دينه ودنياه، وحاله ومستقبله؛ من لغوٍ القول، وعبَث الفعل، وسَفاف الفضول.وفضول الناس لا تقف عند حدٍّ، ولا يُستطاع ألبتةَ حَصْرُها في عدد؛ لأنها فنون متشعِّبة، وضروبٌ متكثِّرة، وألوانٌ مترجِّحة بين لغو المباحات، وكبائر المنكرات.
أمثلة من فضول الناس: وقُصارى ما يُمكِن إنما هو سِياقة أمثلة لها، تكون نَموذجًا لما وراءها؛ فمنها سؤال بعضهم بعضًا: من أين أقبلتَ؟ وإلى أين تذهب؟ وكيف عيش فلان؟ وما مرتبته؟ وماذا يَملِك؟ إلى غير ذلك من أسئلةٍ وبحوث يَضيق بها المسؤول ذرعًا؛ إن كذِب أثِم، وإن صدَق حرِج؛ وربما كشف عورةً، أو أذاع سرًّا، ولا يجني السائل من ورائها إلا ضعفًا في دينه، ونقصًا في خُلُقه، وغمطًا في مروءته، وخير جواب لهذا السفيه هو السكوت والإعراض، أو التذكير بمِثْل هذا الحديث؛ ولا بأس بردِّ سؤاله عليه، أو مفاجأته بما لا يَرتقِب؛ قصْدَ تنبيهه على أن سؤاله هذا من سَقَط المتاع.ومنها تعاطي بعضهم ما لا يُحسِن، وتكلُّفه ما لا يستطيع، وإنفاقه العمر - وهو رأس ماله - فيما لا يعود عليه وعلى أمته إلا بالويل والشقاء.
وكم في النوادي والمجتمعات، والبيوت والطرقات، من ساسة يرسُمون خطط الحرب، ويتطوّعون بالحكم على بعض الدول دون بعض، وهم أعجز الناس عن سياسة أنفسهم وبيوتهم، ومن مصلحين يملؤون الدنيا صياحًا وعويلاً، وهم أجهل الناس بمبادئ الإصلاح وأُسسه، وأحوج الناس إلى تقويم أَوَدِهم، وإصلاح شؤونهم، ومن مُفتين جاهلين؛ يُفتون بغير عِلم، فيَضِلون ويُضِلون، ويُفسدون في الأرض ولا يُصلِحون، إلى طوائفَ لا نُطيل بذِكرها، فهم - ويا للأسف! - سواد هذا المجتمع المسكين، ولا علاج لهؤلاء - إن شاء الله - إلا أن يُذهِبهم، ويأتي بخَلْق جديد.
هل الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر مما لا يعني المرء: ولا يدخل في هذا الباب أمر المرء بالمعروف ونهيه عن المنكر، وتطوُّعه للخير؛ فإن هذه وما إليها من معالي الأمور، وقواعد الإصلاح، ومهمَّات الدين، كيف لا، وقد نفى الله الخير عن كثير من نجوى الناس وكلامهم إلا من أمر بصدقه أو معروف أو إصلاح بين الناس؟[9]وهذا أبو بكر - رضي الله عنه - يصعد مِنبرَ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فيَحمَد الله ويُثني عليه، ثم يقول: "يا أيها الناس، أنكم تقرؤون هذه الآية وتتأوَّلونها على غير تأويلها: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لَا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ ﴾ [المائدة: 105]، وإني سمِعتُ رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول: ((إن الناس إذا رأوا الظالم، فلم يأخذوا على يديه، أوشك أن يَعُمَّهم الله بعقاب من عنده))[10].ذلك، وواضحٌ أنه إذا كان من حُسْن إسلام المرء تركُه ما لا يعنيه، كان - ولا محالة - من حُسْن إسلامه كذلك اشتغاله بما يَعنيه، ومن كان له عقل يمنعه أن يشتغل بما لا يفيد، فخليقٌ بمثله أن يشتغل بما يفيد.
تعليق