الكليم و -هلاك فرعون وجنوده
1- لما تمادى قبط مصر على كفرهم وعتوهم وعنادهم، متابعة لملكهم فرعون، ومخالفة لنبي الله ورسوله وكليمه موسى بن عمران عليه السلام، وأقام الله على أهل مصر الحجج العظيمة القاهرة، وأراهم من خوارق العادات ما بهر الابصار وحير العقول، وهم مع ذلك لا يرعون ولا ينتهون ولا ينزعون ولا يرجعون، ولم يؤمن منهم إلا القليل.
قيل ثلاثة وهم إمرأة فرعون، ولا علم لاهل الكتاب بخبرها، ومؤمن آل فرعون، الذي تقدمت حكاية موعظته ومشورته وحجته عليهم، والرجل الناصح، الذي جاء يسعى من أقصى المدينة فقال: (يا موسى إن الملا يأتمرون بك ليقتلوك فاخرج إني لك من الناصحين) قاله ابن عباس ومراده غير السحرة فإنهم كانوا من القبط *
وقيل بل آمن طائفة من القبط من قوم فرعون والسحرة كلهم وجميع شعب بني إسرائيل.ويدل على هذا قوله تعالى (فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملائهم أن يفتنهم وإن فرعون لعال في الارض وإنه لمن المسرفين) [ يونس: 83 ] فالضمير في قوله (إلا ذرية من قومه) عائد على فرعون
(قال القرطبي: عن ابن عباس: من قومه: يعني من قوم فرعون، منهم مؤمن آل فرعون وخازن فرعون وامرأته وماشطة ابنته وامرأة خازنه.وقيل: هم أقوام أباؤهم من القبط وأمهاتهم من بني إسرائيل فسموا ذرية.قال الفراء: وعلى هذا فالكفاية في قومه: ترجع إلى موسى للقرابة من جهة الامهات، وإلى فرعون إذا كانوا من القبط) لان السياق يدل عليه.
وإيمانهم كان خفية لمخافتهم من فرعون وسطوته وجبروته وسلطته ومن ملائهم أن ينموا عليهم إليه فيفتنهم عن دينهم قال الله تعالى مخبرا عن فرعون وكفى بالله شهيدا (وإن فرعون لعال في الارض) أي جبار عنيد مستعل بغير الحق (وإنه لمن المسرفين) (قال القرطبي: أي المجاوزين الحد في الكفر، لانه كان عبدا فادعى الربوبية.)
أي في جيمع أموره وشئونه وأحواله ولكنه جرثومة قد حان إنجعافها (استئصالها وإهلاكها) وثمرة خبيثة قد آن قطافها ومهجة ملعونة قد حتم اتلافها.وعند ذلك قال موسى (يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين.
فقالوا على الله توكلنا ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين.ونجنا برحمتك من القوم الكافرين) [ يونس: 84 - 86 ] يأمرهم بالتوكل على الله والاستمالة به والالتجاء إليه فأتمروا بذلك فجعل الله لهم مما كانوا فيه فرجا ومخرجا.
فقالوا على الله توكلنا ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين.ونجنا برحمتك من القوم الكافرين) [ يونس: 84 - 86 ] يأمرهم بالتوكل على الله والاستمالة به والالتجاء إليه فأتمروا بذلك فجعل الله لهم مما كانوا فيه فرجا ومخرجا.
2-(وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوآ لقومكما بمصر بيوتا واجعلوا بيوتكم قبلة وأقيموا الصلاة وبشر المؤمنين) [ يونس: 87 ] أوحى الله تعالى إلى موسى وأخيه هارون عليهما السلام أن يتخذوا لقومهما بيوتا متميزة فيما بينهم عن بيوت القبط ليكونوا على أهبة في الرحيل إذا أمروا به ليعرف بعضهم بيوت بعض وقوله
(واجعلوا بيوتكم قبلة) قيل مساجد، وقيل معناه كثرة الصلاة فيها، ومعناه على هذا الاستعانة على ما هم فيه من الضر والشدة والضيق بكثرة الصلاة كما قال تعالى (واستعينوا بالصبر والصلاة) [ البقرة: 45 ]
وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا حزبه أمر صلى.
وقيل معناه أنهم لم يكونوا حينئذ يقدرون على إظهار عبادتهم في مجتمعاتهم ومعابدهم فأمروا أن يصلوا في بيوتهم عوضا عما فاتهم من إظهار شعار الدين الحق في ذلك الزمان الذي اقتضى حالهم اخفاءه خوفا من فرعون وملائه.والمعنى الاول أقوى لقوله (وبشر لمؤمنين) وإن كان لا ينافي الثاني أيضا والله أعلم.
وقيل معناه أنهم لم يكونوا حينئذ يقدرون على إظهار عبادتهم في مجتمعاتهم ومعابدهم فأمروا أن يصلوا في بيوتهم عوضا عما فاتهم من إظهار شعار الدين الحق في ذلك الزمان الذي اقتضى حالهم اخفاءه خوفا من فرعون وملائه.والمعنى الاول أقوى لقوله (وبشر لمؤمنين) وإن كان لا ينافي الثاني أيضا والله أعلم.
3-وقال سعيد بن جبير (واجعلوا بيوتكم قبلة) أي متقابلة (وقال موسى ربنا إنك آتيت فرعون وملاه زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك ربنا اطمس على أموالهم واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الاليم.قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون) [ يونس: 88 - 89 ]
هذه دعوة عظيمة دعا بها كليم الله موسى على عدو الله فرعون غضبا عليه لتكبره عن اتباع الحق، وصده عن سبيل الله، ومعاندته وعتوه وتمرده واستمراره على الباطل، ومكابرته الحق الواضح الجلي الحسي والمعنوي والبرهان القطعي فقال (ربنا إنك آتيت فرعون وملاه) يعني قومه من القبط ومن كان على ملته ودان بدينه
(زينة وأموالا في الحياة الدنيا ربنا ليضلوا عن سبيلك) أي وهذا يغتر به من يعظم أمر الدنيا، فيحسب الجاهل أنهم على شئ لكون هذه الاموال وهذه الزينة من اللباس والمراكب الحسنة الهنية، والدور الانيقة، والقصور المبنية، والمآكل الشهية، والمناظر البهية، والملك العزيز، والتمكين والجاه العريض في الدنيا لا الدين (ربنا اطمس على أموالهم)
قال ابن عباس ومجاهد أي أهلكها [ حتى لا ترى ] و اجعلها حجارة منقوشة كهيئة ما كانت، وقال قتادة: بلغنا أن زروعهم [ وأموالهم ] صارت حجارة. وقال أيضا صارت أموالهم كلها حجارة.
ذكر ذلك لعمر بن عبد العزيز فقال عمر ابن عبد العزيز لغلام له: قم ايتني بكيس، فجاءه بكيس فإذا فيه حمص وبيض قد حول حجارة وقوله (واشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا حتى يروا العذاب الاليم) [ يونس: 88 ]
قال ابن عباس: أي أطبع عليها (أطبع عليها حتى لا تنشرح للايمان، وبمعنى آخر أي أمنعهم الايمان أطبع عليها حتى لا تنشرح للايمان، وبمعنى آخر أي أمنعهم الايمان)، وهذه دعوة غضب لله تعالى، ولدينه، ولبراهينه. فاستجاب الله
تعالى لها وحققها وتقبلها، كما استجاب لنوح في قومه حيث قال
تعالى لها وحققها وتقبلها، كما استجاب لنوح في قومه حيث قال
(رب لا تذر على الارض من الكافرين ديارا.إنك إن تذرهم يضلوا عبادك ولا يلدوا إلا فاجرا كفارا) [ نوح: 26 - 27 ]
ولهذا قال تعالى مخاطبا لموسى حين دعا على فرعون وملائه وأمن () كان الذي دعا موسى، وأمن هارون، والتأمين على الدعاء أن يقول: آمين، فقولك آمين دعاء أي رب استجب لي) أخوه هارون على دعائه فنزل ذلك منزلة الداعي أيضا (قال قد أجيبت دعوتكما فاستقيما ولا تتبعان سبيل الذين لا يعلمون) [ يونس: 89 ]
4-قال المفسرون وغيرهم من أهل الكتاب استأذن بنو إسرائيل فرعون في الخروج إلى عيد لهم، فأذن لهم وهو كاره، ولكنهم تجهزوا للخروج، وتأهبوا له وإنما كان في نفس الامر، مكيدة بفرعون وجنوده ليتخلصوا منهم ويخرجوا عنهم وأمرهم الله تعالى فيما ذكره أهل الكتاب أن يستعيروا حليا منهم فأعاروهم شيئا كثيرا فخرجوا بليل فساروا مستمرين ذاهبين من فورهم طالبين بلاد الشام فلما علم بذهابهم فرعون حنق عليهم كل الحنق واشتد غضبه عليهم، وشرع في استحثاث جيشه، وجمع جنوده ليلحقهم ويمحقهم،
4-قال الله تعالى (وأوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي إنكم متبعون.فارسل فرعون في المدائن حاشرين إن هؤلاء لشرذمة قليلون.
وإنهم لنا لغائظون وإنا لجميع حاذرون فأخرجناهم من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم كذلك وأورثناها بني اسرائيل فاتبعوهم مشرقين.فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون.
وإنهم لنا لغائظون وإنا لجميع حاذرون فأخرجناهم من جنات وعيون وكنوز ومقام كريم كذلك وأورثناها بني اسرائيل فاتبعوهم مشرقين.فلما تراءى الجمعان قال أصحاب موسى إنا لمدركون.
قال كلا إن معي ربي سيهدين.فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم.وأزلفنا ثم الآخرين.وأنجينا موسى ومن معه أجمعين.ثم أغرقنا الآخرين.
إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين.وإن ربك لهو العزيز الرحيم) [ الشعراء: 52 - 68 ]
إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين.وإن ربك لهو العزيز الرحيم) [ الشعراء: 52 - 68 ]
قال علماء التفسير: لما ركب فرعون في جنوده طالبا بني إسرائيل يقفو أثرهم كان في جيش كثيف عرمرم حتى قيل كان في خيوله مائة ألف فحل (هنا: من الخيل، ولم يكن معه من الخيل أنثى بل ذكورها) أدهم، وكانت عدة جنوده تزيد على ألف ألف وستمائة ألف فالله أعلم.
وقيل إن بني إسرائيل كانوا نحوا من ستمائة ألف مقاتل غير الذرية وكان بين خروجهم من مصر صحبة موسى عليه السلام ودخولهم إليها صحبة أبيهم إسرائيل أربعمائة سنة وستا وعشرين سنة شمسية
وقيل إن بني إسرائيل كانوا نحوا من ستمائة ألف مقاتل غير الذرية وكان بين خروجهم من مصر صحبة موسى عليه السلام ودخولهم إليها صحبة أبيهم إسرائيل أربعمائة سنة وستا وعشرين سنة شمسية
والمقصود أن فرعون لحقهم بالجنود فأدركهم عند شروق الشمس وتراءى الجمعان ولم يبق ثم ريب ولا لبس وعاين كل من الفريقين صاحبه وتحققه ورآه ولم يبق إلا المقاتلة المجادلة والمحاماة فعندها
قال أصحاب موسى وهم خائفون إنا لمدركون وذلك لانهم اضطروا في طريقهم إلى البحر فليس لهم طريق ولا محيد إلا سلوكه وخوضه.وهذا ما لا يستطيعه أحد ولا يقدر عليه والجبال عن يسرتهم وعن أيمانهم وهي شاهقة منيفة وفرعون قد غالقهم وواجههم وعاينوه في جنوده وجيوشه وعدده وعدده وهم منه في غاية الخوف
والذعر لما قاسوا في سلطانه من الاهانة والمنكر فشكوا إلى نبي
الله ما هم فيه مما قد شاهدوه وعاينوه فقال لهم الرسول الصادق المصدوق
(كلا إن معي ربي سيهدين) وكان في الساقة فتقدم إلى المقدمة ونظر إلى البحر وهو يتلاطم بأمواجه ويتزايد
أجاجه وهو يقول: ههنا أمرت ومعه أخوه هرون ويوشع بن نون، وهو يومئذ من سادات بني إسرائيل، وعلمائهم، وعبادهم الكبار، وقد أوحى الله إليه وجعله نبيا بعد موسى وهرون عليهما السلام، كما سنذكره فيما بعد إن شاء الله *
5-ومعهم أيضا مؤمن آل فرعون وهم وقوف وبنو إسرائيل بكمالهم عليهم عكوف *
ويقال إن مؤمن آل فرعون جعل يقتحم بفرسه مرارا في البحر هل يمكن سلوكه، فلا يمكن ويقول لموسى عليه السلام: يا نبي الله أههنا أمرت ؟ فيقول نعم. فلما تفاقم الامر، وضاق الحال، واشتد الامر، واقترب فرعون وجنوده في جدهم: وحدهم وحديدهم وغضبهم وحنقهم، وزاغت الابصار، وبلغت القلوب الحناجر،
فعند ذلك أوحى الحليم العظيم القدير رب العرش الكريم إلى موسى الكليم (أن أضرب بعصاك البحر) فلما ضربه يقال إنه قال له: انفلق باذن الله، فالله أعلم، قال الله تعالى:
(فأوحينا إلى موسى أن اضرب بعصاك البحر فانفلق فكان كل فرق كالطود العظيم) [ الشعراء: 63 ]
ويقال: إنه انفلق اثنتي عشرة طريقا لكل سبط (كان بنو إسرائيل اثني عشر سبطا.والجمع أسباط) طريق يسيرون فيه حتى قيل إنه صار أيضا شبابيك ليرى بعضهم بعضا، وفي هذا نظر، لان الماء جرم شفاف إذا كان من ورائه ضياء حكاه.وهكذا كان ماء البحر قائما مثل الجبال مكفوفا بالقدرة العظيمة الصادرة من الذي يقول للشئ كن فيكون.وأمر الله ريح الدبور (الريح الغربية) فلقحت حال (الطين الاسود الذي يكون في أرضه.
) البحر فأذهبته حيت صار يابسا لا يعلق في سنابك الخيول والدواب.
) البحر فأذهبته حيت صار يابسا لا يعلق في سنابك الخيول والدواب.
6-قال الله تعالى (ولقد أوحينا إلى موسى أن أسر بعبادي فاضرب لهم طريقا في البحر يبسا لا تخاف دركا ولا تخشى.فاتبعهم فرعون بجنوده فغشيهم من اليم ما غشيهم وأضل فرعون قومه وما هدى) [ طه: 77 - 79 ]
والمقصود أنه لما آل أمر البحر
إلى هذه الحال بإذن الرب العظيم، الشديد المحال، أمر موسى عليه السلام أن يجوزه ببني إسرائيل فانحدروا فيه مسرعين، مستبشرين مبادرين، وقد شاهدوا من الامر العظيم ما يحير الناظرين، ويهدي قلوب المؤمنين، فلما جاوزوه وجاوزه وخرج آخرهم منه، وانفصلوا عنه، كان ذلك عند قدوم أول جيش فرعون إليه ووفودهم عليه، فأراد موسى عليه السلام أن يضرب البحر بعصاه ليرجع كما كان عليه لئلا يكون لفرعون وجنوده وصول إليه.ولا سبيل عليه فأمره القدير ذو الجلال أن يترك البحر على هذه الحال، كما قال وهو الصادق في المقال
(ولقد فتنا قبلهم قوم فرعون وجاءهم رسول كريم أن أدوا إلى عباد الله إني لكم رسول أمين.وان لا تعلوا على الله إني آتيكم بسلطان مبين.واني عذت بربي وربكم أن ترجمون.وإن لم تؤمنوا لي فاعتزلون.فدعا ربه أن هؤلاء قوم مجرمون.فأسر بعبادي ليلا إنكم متبعون واترك البحر رهوا إنهم جند مغرقون.
كم تركوا من جنات وعيون وزروع ومقام كريم ونعمة كانوا فيها فاكهين.كذلك وأورثناها قوما آخرين.فما بكت عليهم السماء والارض وما كانوا منظرين.ولقد نجينا بني إسرائيل من العذاب المهين.من فرعون إنه كان عاليا من المسرفين.ولقد اخترناهم على علم على العالمين وآتيناهم من الآيات ما فيه بلاء مبين) [ الدخان: 17 - 23 ]
فقوله تعالى (وأترك البحر رهوا)
أي ساكنا على هيئته لا تغيره عن هذه الصفة، قاله عبد الله بن عباس فلما تركه على هيئته وحالته وانتهى فرعون فرأى ما رأى وعاين ما عاين.هاله هذا المنظر العظيم، وتحقق ما كان يتحققه قبل ذلك، من أن هذا من فعل رب العرش الكريم فأحجم (فخاف) ولم يتقدم، وندم في نفسه على خروجه في طلبهم والحالة هذه، حيث لا ينفعه الندم لكنه أظهر لجنوده تجلدا وعاملهم معاملة العدا، وحملته النفس الكافرة، والسجية الفاجرة، على أن قال لمن استخفهم فأطاعوه، وعلى باطله تابعوه
، أنظروا كيف أنحسر البحر لي لادرك عبيدي الآبقين من يدي، الخارجين عن طاعتي، وبلدي، وجعل يوري في نفسه أن يذهب خلفهم، ويرجو أن ينجو، وهيهات ويقدم تارة ويحجم تارات.فذكروا أن جبريل عليه السلام تبدى في صورة فارس راكب على رمكة
(: الفرس التي لم تلد.) حايل فمر بين يدي فحل فرعون لعنه الله، فحمحم إليها، وأقبل عليها، وأسرع جبريل بين يديه، فاقتحم البحر واستبق الجواد وقد أجاد فبادر مسرعا ; هذا وفرعون لا يملك من نفسه ضرا
ولا نفعا فلما رأته الجنود قد سلك البحر، اقتحموا وراءه مسرعين، فحصلوا في البحر أجمعين أكتعين أبصعين، حتى هم أولهم بالخروج منه، فعند ذلك أمر الله تعالى كليمه، فيما أوحاه إليه أن يضرب البحر بعصاه فضربه فارتطم عليهم البحر كما كان، فلم ينج منهم إنسان قال الله تعالى
(وأنجينا موسى ومن معه أجمعين. ثم أغرقنا الآخرين إن في ذلك لآية وما كان أكثرهم مؤمنين.وإن ربك لهو العزيز الرحيم) [ يونس: 90 - 92 ]
أي في انجائه أولياءه فلم يغرق منهم أحد، وإغراقه أعداءه، فلم يخلص منهم أحد، آية عظيمة، وبرهان قاطع، على قدرته - تعالى - العظيمة.وصدق رسوله فيما جاء به عن ربه من الشريعة الكريمة، والمناهج المستقيمة،
7-وقال تعالى (وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فاتبعه فرعون وجنوده بغيا وعدوا حتى إذا أدركه الغرق قال آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل وأنا من المسلمين الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين.فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية وأن كثيرا من الناس عن آياتنا لغافلون) [ الشعراء: 65 - 68 ]
1-يخبر تعالى عن كيفية غرق فرعون،
زعيم كفرة القبط، وأنه لما جعلت الامواج تخفضه تارة، وترفعه أخرى، وبنو إسرائيل ينظرون إليه، وإلى جنوده، ماذا احل الله به، وبهم من الباس العظيم، والخطب الجسيم، ليكون أقر لاعين بني إسرائيل، وأشفى لنفوسهم، فلما عاين فرعون الهلكة وأحيط به، وباشر سكرات الموت أناب حينئذ وتاب، وآمن حين لا ينفع نفسا إيمانها كما قال تعالى
(إن الذين حقت عليهم كلمة ربك لا يؤمنون ولو جاءتهم كل آية حتى يروا العذاب الاليم) [ يونس: 96 - 97 ] وقال تعالى
(فلما رأوا بأسنا قالوا آمنا بالله وحده وكفرنا بما كنا به مشركين.
فلم يك ينفعهم إيمانهم لما رأوا بأسنا سنة الله التي قد خلت في عباده وخسر هنالك الكافرون) [ غافر: 84 - 85 ] وهكذا دعا موسى على فرعون وملئه أن يطمس على أموالهم ويشدد على قلوبهم فلا يؤمنوا (حتى يروا العذاب الاليم) أي حين لا ينفعهم ذلك ويكون حسرة عليهم وقد قال تعالى لهما أي لموسى وهرون حين دعوا بهذا
(قد أجيب دعوتكما) فهذا من إجابة الله تعالى دعوة كليمه وأخيه هرون عليهما السلام.
2-ومن ذلك الحديث الذي رواه الامام أحمد: ، عن ابن عباس قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال فرعون (آمنت أنه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل) قال: " قال لي جبريل لو رأيتنني وقد أخذت من حال البحر فدسسته في فيه مخافة أن تناله الرحمة " الترمذي حديث حسن.
3-وقال ابن عباس : لما أغرق الله فرعون أشار بإصبعه ورفع صوته (آمنت انه لا إله إلا الذي آمنت به بنو إسرائيل) قال: فخاف جبريل أن تسبق رحمة الله فيه غضبه، فجعل يأخذ الحال بجناحيه، فيضرب به وجهه فيرمسه (يدفنه) *
4- وفي بعض الروايات: إن جبريل قال: ما بغضت أحدا بغضي لفرعون حين قال: أنا ربكم الاعلى ولقد جعلت أدس في فيه الطين حين قال ما قال.وقوله تعالى (الآن وقد عصيت قبل وكنت من المفسدين)
إستفهام إنكار ونص على عدم قبوله تعالى منه ذلك لانه - والله أعلم: لو رد إلى الدنيا كما كان لعاد إلى ما كان عليه، كما أخبر تعالى عن الكفار إذا عاينوا النار وشاهدوها أنهم يقولون (يا ليتنا نرد ولا نكذب بآيات ربنا ونكون من المؤمنين) [ الانعام: 27 ] قال الله (بل بدا لهم ما كانوا يخفون من قبل ولو ردوا لعادوا لما نهوا عنه وإنهم لكاذبون) [ الانعام: 28 ]
5-وقوله (فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلقك آية) [ يونس: 92 ]
قال ابن عباس وغير واحد: شك بعض بني إسرائيل في موت فرعون حتى قال بعضهم: إنه لا يموت، فأمر الله البحر فرفعه على مرتفع.قيل على وجه الماء وقيل على نجوة من الارض وعليه درعه التي يعرفونها من ملابسه ليتحققوا بذلك هلاكه ويعلموا قدرة الله عليه.ولهذا قال (فاليوم ننجيك ببدنك) أي مصاحبا درعك المعروفة بك (لتكون) أي أنت آية (لمن خلفك) أي من بني إسرائيل (زاد في القرطبي: ولمن بقي من قوم فرعون ممن لم يدركه الغرق ولم ينته إليه هذا الخبر) دليلا على قدرة الله الذي أهلكه.ولهذا قرأ بعض السلف لتكون لمن خلقك آية.ويحتمل أن يكون المارد ننجيك مصاحبا لتكون درعك علامة لمن وراءك من بني إسرائيل على معرفتك وإنك هلكت والله أعلم.
6-وقد كان هلاكه وجنوده في يوم عاشوراء، كما قال الامام البخاري في صحيحه:
عن ابن عباس قال: قدم النبي صلى الله عليه وسلم المدينة واليهود تصوم يوم عاشوراء.فقالوا: هذا يوم ظهر فيه موسى على فرعون.قال النبي صلى الله عليه وسلم: " أنتم أحق بموسى منهم فصوموا " والله أعلم.
-[ فيما كان من ] أمر بني اسرائيل بعد هلاك فرعون
1-قال الله تعالى: (فانتقمنا منهم فاغرقناهم في اليم بأنهم كذبوا بآياتنا وكانوا عنها غافلين.وأورثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الارض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون.وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فأتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم
.قالوا يا موسى اجعل لنا إلها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون.إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون.قال أغير الله أبغيكم إلها وهو فضلكم على العالمين.وإذ أنجيناكم من آل فرعون يسومونكم سوء العذاب يقتلون أبناءكم ويستحيون نساءكم وفي ذلكم بلاء من ربكم عظيم) [ الاعراف: 136 - 141 ]
يذكر تعالى ما كان من أمر فرعون وجنوده في غرقهم وكيف سلبهم عزهم وما لهم وأنفسهم وأورث بني إسرائيل جميع أموالهم وأملاكهم كما قال (كذلك وأورثناها بني إسرائيل) [ الشعراء: 59 ] وقال
(ونريد أن نمن على الذين استضعفوا في الارض ونجعلهم أئمة ونجعلهم الوارثين) وقال ههنا (وأرثنا القوم الذين كانوا يستضعفون مشارق الارض ومغاربها التي باركنا فيها وتمت كلمة ربك الحسنى على بني إسرائيل بما صبروا ودمرنا ما كان يصنع فرعون وقومه وما كانوا يعرشون) [ الاعراف: 137 ]
أي أهلك ذلك جميعه وسلبهم عزهم العزيز العريض في الدنيا وهلك الملك وحاشيته وامراؤه وجنوده ولم يبق ببلد مصر سوى العامة والرعايا.فذكر ابن عبد الحكم في تاريخ مصر أنه من ذلك الزمان تسلط نساء مصر على رجالها بسبب أن نساء الامراء والكبراء تزوجن بمن دونهن من العامة فكانت لهن السطوة عليهم
واستمرت هذه سنة نساء مصر إلى يومنا هذا .
2-وعند أهل الكتاب: أن بني إسرائيل لما أمروا بالخروج من مصر، جعل الله ذلك الشهر أول سنتهم، وأمروا أن يذبح كل أهل بيت حملا من الغنم، فإن كانوا لا يحتاجون إلى حمل فليشترك الجار وجاره فيه فإذا ذبحوه فلينضحوا من دمه على أعتاب أبوابهم ليكون علامة لهم على بيوتهم ولا يأكلونه مطبوخا ولكن مشويا برأسه وأكارعه وبطنه ولا يبقوا منه شيئا ولا يكثروا له عظما ولا يخرجوا منه شيئا إلى خارج بيوتهم، وليكن خبزهم فطيرا سبعة أيام، ابتداؤها من الرابع عشر من الشهر الاول من سنتهم،
وكان ذلك في فصل الربيع، فإذا أكلوا فتكن أوساطهم مشدودة، وخفافهم في أرجلهم، وعصيهم في أيديهم، وليأكلوا بسرعة قياما.ومهما فضل عن عشائهم فما بقي إلى الغد فليحرقوه بالنار، وشرع لهم هذا عيدا لاعقابهم ما دامت التوراة معمولا بها، فإذا نسخت بطل شرعها وقد وقع.
قالوا وقتل الله عزوجل في تلك الليلة أبكار القبط وأبكار دوابهم ليشتغلوا عنهم وخرج بنو إسرائيل حين انتصف النهار وأهل مصر في مناحة عظيمة على أبكار أولادهم، وأبكار أموالهم، ليس من بيت إلا وفيه عويل.وحين جاء الوحي إلى موسى خرجوا مسرعين، فحملوا العجين قبل اختماره، وحملوا الازواد في الاردية، وألقوها على عواتقهم *
وكانوا قد استعاروا من أهل مصر حليا كثيرا فخرجوا وهم ستمائة ألف رجل سوى الذراري بما معهم من الانعام وكانت مدة مقامهم بمصر أربعمائة سنة وثلاثين سنة.ص كتابهم.
وهذه السنة عندهم تسمى سنة الفسخ وهذا العيد عيد الفسخ.ولهم عيد الفطير وعيد الحمل وهو أول السنة * وهذه الاعياد الثلاثة آكد أعيادهم منصوص عليها في كتابهم، ولما خرجوا من مصر أخرجوا معهم تابوت يوسف (روى الطبري عن عروة بن الزبير عن أبيه أن الله أمر موسى أن يحتمل معه يوسف حتى يضعه بالارض، فاستخرج موسى تابوت يوسف - في ناحية من النيل - صندوقا من مرمر) عليه السلام وخرجوا على طريق بحر سوف.
وكانوا في النهار يسيرون والسحاب بين أيديهم يسير أمامهم فيه عامود نور وبالليل أمامهم عامود نار فانتهى بهم الطريق إلى ساحل البحر فنزلوا هنالك وأدركهم فرعون وجنوده من المصريين وهم هناك حلول على شاطئ اليم فقلق كثير من بني إسرائيل حتى
3- قال قائلهم: كان بقاؤنا بمصر أحب إلينا من الموت بهذه البرية.
وقال موسى عليه السلام لمن قال هذه المقالة: لا تخشوا فإن فرعون وجنوده لا يرجعون إلى بلدهم بعد هذا.قالوا: وأمر الله موسى عليه السلام أن يضرب البحر بعصاه وأن يقسمه ليدخل بنو إسرائيل في البحر واليبس.
وصار الماء من ههنا وههنا كالجبلين وصار وسطه يبسا لان الله سلط عليه ريح الجنوب والسموم فجاز بنو إسرائيل البحر، واتبعهم فرعون وجنوده، فلما توسطوه أمر الله موسى فضرب البحر بعصاه، فرجع الماء كما كان عليهم.
وصار الماء من ههنا وههنا كالجبلين وصار وسطه يبسا لان الله سلط عليه ريح الجنوب والسموم فجاز بنو إسرائيل البحر، واتبعهم فرعون وجنوده، فلما توسطوه أمر الله موسى فضرب البحر بعصاه، فرجع الماء كما كان عليهم.
4-لكن عند أهل الكتاب أن هذا كان في الليل وأن البحر ارتطم عليهم عند الصبح وهذا من غلطهم وعدم فهمهم في تعريبهم والله أعلم.
قالوا ولما أغرق الله فرعون وجنوده حينئذ سح موسى وبنو إسرائيل بهذا التسبيح للرب
وقالوا: نسبح الرب البهي، الذي قهر الجنود، ونبذ فرسانها في البحر المنيع المحمود: وهو تسبيح طويل.قالوا وأخذت مريم (وهي مريم بنت عمران أخت موسى، وليست مريم بنت عمران أم عيسى عليهم السلام )
النبية - أخت هارون - دفا بيدها وخرج النساء في أثرها كلهن بدفوف وطبول وجعلت مريم ترتل لهن، وتقول سبحان الرب القهار، الذي قهر الخيول وركبانها إلقاء في البحر.هكذا رأيته في كتابهم.
ولعل هذا هو من الذي حمل محمد بن كعب القرظي على زعمه أن مريم بنت عمران أم عيسى هي أخت هرون وموسى مع قوله يا أخت هرون * وقد بينا غلطه في ذلك ولو قدر أن هذا محفوظ فهذه مريم بنت عمران أخت موسى وهرون عليها السلام وأم عيسى عليها السلام وافقتها في الاسم واسم الاب واسم الاخ لانهم كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم للمغيرة بن شعبة لما سأله أهل نجران عن قوله يا أخت هرون فلم يدر ما يقول لهم، حتى سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فقال: " أما علمت أنهم كانوا يسمون بأسماء أنبيائهم، (مسلم).
5-وقولهم النبية كما يقال للمرأة من بيت الملك ملكة ومن بيت الامرة أميرة وإن لم تكن مباشرة شيئا من ذلك فكذا هذه استعارة لها لا أنها نبية حقيقة يوحى إليها وضربها بالدف في مثل هذا اليوم الذي هو أعظم الاعياد عندهم، دليل على أنه قد كان شرع من قبلنا ضرب الدف في العيد * وهذا مشروع لنا أيضا في حق النساء لحديث الجاريتين اللتين كانتا عند عائشة يضربان بالدف في أيام منى ورسول الله صلى الله عليه وسلم مضطجع مولى ظهره إليهم ووجهه إلى الحائط فلما دخل أبو بكر زجرهن (صرخ بهن وصاح)،
وقال: أبمزمور الشيطان في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: " دعهن يا أبا بكر فإن لكل قوم عيدا وهذا عيدنا ".وهكذا يشرع عندنا في الاعراس، ولقدوم الغياب، كما هو مقرر في موضعه والله أعلم.
6-وذكروا أنهم لما جاوزوا البحر وذهبوا قاصدين إلى بلاد الشام مكثوا ثلاثة أيام لا يجدون ماء فتكلم من تكلم منهم بسبب ذلك فوجدوا ماء زعاقا أجاجا (المر الغليظ، والمالح الذي لا يطاق شربه.) لم يستطيعوا شربه فأمر الله موسى فأخذ خشبة فوضعها فيه فحلا وساغ شربه وعلمه الرب هنالك فرائض وسننا ووصاه وصايا كثيرة.
7-وقد قال الله تعالى في كتابه العزيز المهيمن على ما عداه من الكتب
(وجاوزنا ببني إسرائيل البحر فاتوا على قوم يعكفون على أصنام لهم قالوا يا موسى اجعل لنا الها كما لهم آلهة قال إنكم قوم تجهلون.إن هؤلاء متبر ما هم فيه وباطل ما كانوا يعملون) [ الاعراف: 138 ].
تعليق