ما هو علم الغيب الذي اختص به الله تعالى؟
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله --- اما بعد
الغيب كما لا يخفى على جميع الحاضرين إذا أُطلق فالمقصود به الغيب الذاتي، أي الذي يعرفه الإنسان بذاته، يعني بعلمه الذاتي دون أن يتخذ وسيلة من الوسائل التي خلقها الله عز وجل ليصل بها إلى معرفة ما غاب عن بعض الناس، هذا الغيب هو الذي اختص الله عز وجل به دون الناس،
نحن مثلاً نعلم أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - أخبرنا بكثير من المغيبات، ولكن هذا العلم الذي حدثنا به الرسول عليه السلام لم يكن علماً ذاتياً به، وإنما أخبره الله عز وجل بواسطة الوحي، كما قال تعالى: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا، إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ}
فالله عز وجل إذا ارتضى رسولاً فينبئه ببعض المغيبات، هذا الرسول المنبأ لا يوصف بأنه عالم بالغيب، وإنما هو مُنبأ بالغيب كما جاء في صحيح البخاري: «أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - مر ذات يوم بجارية من الأنصار، وهي تغني تضرب على دف وتقول: وفينا نبي يعلم ما في غد. فقال عليه السلام: لا يعلم الغيب إلا الله، دعي هذا وقولي ما كنت تقولين».
دعي قولك: وفينا نبي يعلم ما في غد؛ لأنه هو لا يعلم الغيب بواسطة ذاته، وإنما بواسطة إعلام ربه إياه على بعض المغيبات، إذا عرفنا هذه الحقيقة وخلاصة ذلك أن العلم بالغيب إما أن يكون ذاتياً، وإما أن يكون بالواسطة، فالذي اختص الله به هو القسم الأول
، أما القسم الآخر فقد يتحقق به بعض الناس، وهؤلاء الناسقسمان: قسم وهم الأقلون بالنسبة لعموم الناس، هم الرسل الذين يصطفيهم الله برسالاته وبكلماته، ويوحي إليهم ما يشاء من وحيه.
والقسم الآخر من الناس الذين يتخذون المعرفة والعلم الكسبي وسيلة لاكتشاف بعض الأمور التي تغيب عادة عن عامة الناس، فهذا لا يقال علم بالغيب، هذا كأي علم، أنا مثلاً أقول لكم:
قال رسول الله، وأنت ما سمعت بهذا الحديث إطلاقاً، فهذا بالنسبة لك غيب، لكن أنا ما قلت هذا في غيب من الله؛ لأنه لا واحد بعد رسول الله، لكن أنا بحثت ودرست وفتشت، فوجدت هذا الحديث فأعلمتك به، فهذا علمي بالنسبة إليك كان غيباً، لكن لما أنبأتك به صار شهوداً، وخرج عن كونه غيباً.
على هذا المثال البسيط تماماً قس كل الوسائل العلمية الحديثة، والقديمة منها، الفطرية والتي أخذت جهداً جهيداً من العلماء حتى وصلوا إلى اكتشاف أمور دقيقة جداً بعض عامة الناس، أنا كسائر الناس كنت لا أعلم أن الفلاح في مزرعته يعلم ما لا يعلمه الطبيب المطلع الآن بواسطة الجهاز التلفزيوني هذا على الجنين في بطن الأم، هذا الطبيب الذي وصل بهذا الاكتشاف أن يعرف هوية الجنين
هو ذكر أم أنثى، لا يعرف ما يعرفه الفلاح في حقله ومزرعته، مثلاً هو يستطيع أنه إذا قطع الشجر أن يقول لك كم عمرها، لكن اسأل الطبيب الخريت في مهنته لا يعرف، فهذه هي المسألة بسيطة، بالتجربة قرأتها قديماً ، أن هناك دوائر في جذع الشجرة كل دائرة تدل على سنة، هذا ليس علم بالغيب، هذا علم تجربي، لكن هو بالنسبة لعامة الناس غيب، لكن ليس هو الغيب الذي اختص الله به.
من هذا القبيل نعرف من قديم الزمان أن علماء الفلك يحكمون قبل سنين، ويضعون لك مخططاً ومنهجاً وروزنامة أنه في السنة الفلانية في شهر كذا، في يوم كذا، في ساعة كذا سيكسف الشمس أو القمر، ويعطيك تفاصيل دقيقة كسوف أو خسوف كلي أو نصفي أو جزئي .. إلى آخره،
هذا غيب بالنسبة لعامة الناس، لكن هذا ليس غيباً إنما هو علم إذا درسه أي إنسان ممكن أن يصبح مثل هؤلاء الفلكيين، أخيراً الآن وصلوا إلى اكتشاف كما قد يظن أن هذا من خصوصيات الله عز وجل، أن ربنا يعلم ما في الأرحام، صاروا الآن بعض الأطباء أو كلهم؛
لأنها وسيلة صارت مبذولة، حتى النساء أصبحوا يعرفون إن كان ذكراً أو أنثى، هذا بواسطة العلم الذي يسره الله عز وجل للناس، وعلى مدى هذا الزمان الطويل.
إذاً: هو كعلم الفلك، كمعرفة الخسوف والكسوف، فهذا من هذا القبيل تماماً، فهذا ليس علماً بالغيب، الغيب هو العلم الذاتي، وهذا من صفة الله عز وجل، ولا يشاركه أحد من عباده.
من هنا نستطيع أن نتوصل إلى أن العقيدة الإسلامية وسط بين الغلاة الذين يزعمون بأن بعض مشائخهم يطلعون على ما في الصدور، وهذا مع الأسف نعرفه من كثير من المريدين المزعومين، وبين بعض المشائخ الجامدين والعلماء المتفقهين الذين ينكرون حقائق علمية لا مجال لإنكارها بسبب توهمهم أن هذا ينافي اعتقادنا أن العلم بالغيب هو مما اختص الله به عز وجل
، فنحن نقول نعم، العلم بالغيب بدون وسيلة خلقها الله، هذا من خصوصيات الله عز وجل لا يشاركه
فيه أحد، أما العلم ببعض المغيبات الخافية على عامة الناس باستعمال الوسائل التي ذكرها الله وذللها الله، فهذا ممكن، وهذا لا ينافي استقلال الله وانفراد الله عز وجل بعلمه بالغيب.
هل يعلم النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - الغيب؟
وقد يقول قائل أنه عليه الصلاة والسلام صلى صلاة الفجر يوماً ثم صعد المنبر فخطب الناس إلى صلاة الظهر، ثم صلى وصعد، ثم عاد وهكذا، فأخبرهم بما كان وما هو كائن إلى يوم القيامة، يقول الصحابي: حفظه منا من حفظه، ونسيه من نسيه، وإنه لتمر علي الحاجة فأتذكرها كما يتذكر الرجل وجه الرجل؛
فالإمام البوصيري عندما قال: ومن علومك علم اللوح والقلم، فهو قال: حدثنا بما كان وبما هو كائن إلى يوم القيامة، وهذا يطابق: قال له: اكتب، قال: وماذا أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة؟
والحمد لله هذا الحديث صحيح وفي صحيح مسلم، ثانياً: كلمة: حدثنا بما هو كائن إلى يوم القيامة يحتمل أن يكون تحديثه عليه السلام تحديث بالأمور الهامة، وليس بالأمور التفصيلية التي لا يستطيع أي بشر أن يعيها وأن يدركها مهما أوتي علماً وقوة من الله تبارك وتعالى،
بمعنى: أنا أقول فرضاً وجدلاً: من الممكن أن الله عز وجل يصطفي نبيه عليه الصلاة والسلام بما يشاء فيحفظه فعلاً ظاهر هذا الحديث الصحيح، أي: ما كان وما يكون إلى يوم القيامة، لكن كيف ذلك وهو يحدث ناساً غير أنبياء وغير رسل وطاقتهم محدودة، وليس لهم تلك الصفة التي اصطفاها ربنا عز وجل نبينا عليه الصلاة والسلام.
ولذلك ، لا يجوز أن نفسر حديثاً من أحاديث الرسول عليه السلام وقوفاً عنده فقط، وإنما نوسع دائرة النظر وننظر في الأحاديث الأخرى،
وهل تساعدنا على أن نقف في فهمنا لهذا الحديث الصحيح بالمعنى الواسع الشامل العام، كما قال تعالى: {لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} ، أم المعنى يكون أضيق من ذلك؟
مثالة حديث فيه أن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - قال: «من ادان ديناً وفي نيته الوفاء به، ثم لم يف به، وفَّى الله عز وجل عنه يوم القيامة» قلنا: هذا حديث صحيح،
وبهذا الحديث يفسر حديث آخر وهنا الشاهد، قال عليه السلام: «يغفر للشهيد كل ذنب إلا الدين» فهل نفسر هذا الحديث: «إلا الدين» مات الشهيد وعليه دين فلا يغفر هذا الذنب منه ولو كان ناوياً الوفاء؟ نقول: لا، لأن الحديث الأول يفسر ويخصص الحديث الثاني.
هذا يشبه حديثنا الثاني، إذا نظرنا إليه وحده: «يغفر للشهيد كل ذنب إلى الدين» والله هذا شيء خطير وخطير جداً، جاهد في سبيل الله ومات في سبيل الله ولا يغفر له ذنبه حيث مات مديناً لبعض المسلمين؟ لا، هذا ليس على إطلاقه وشموله، وإنما هو مخصص فيما إذا كان ليس في نيته أن يفي الحق لصاحبه،
هنا هذا مثاله تماماً،
هذا الحديث الذي نحن بصددة لا شك أنه نفهم منه أن الرسول عليه السلام علمه الله كل كبير وصغير، وأنه كما قال تعالى: {لا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا} لكن لا، هذا غير صحيح، وإنما معنى الحديث:
أنه علمه أشياء جوهرية أساسية مثل أشراط الساعة الكبرى ونحو ذلك من الصغرى التي يهم المسلمين أن يتعرفوا عليها، كما قال تعالى في القرآن الكريم: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا، إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ}
هنا نحن نقول: كلمة «غيب»
هنا كحديثنا السابق تماماً، هل ربنا يُطْلِع الأنبياء على غيبه كله؟ لا،
قال علماء التفسير: على ما يراه رَبُّنَا عز وجل أن يُعلم من شاء من الرسل يطلعه على بعض المغيبات، وليس على كل المغيبَات، ذلك لأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - كل نبي إذا علمه الله علماً وجب عليه أن يُبلِّغه المسلمين، تماماً كما قالت السيدة عائشة رضي الله تعالى عنها في حديث طويل ، تقول فيه:
«ومن حدثكم بأن محمداً - صلى الله عليه وآله وسلم - كتم شيئاً أُمر بتبليغه ... »
{يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} قالت: «من حدثكم أن محمد - صلى الله عليه وآله وسلم - كتم شيئاً أُمر بتبليغه فقد أعظم على الله الفرية».
فإذاً: ربنا عز وجل كما قال: {فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ}
أي: على بعض غيبه، تقدير مضاف محذوف، لأن النبي ولو كان مصطفى كما قلنا ليس ممكن يكون إلها ثانياً في علمه في إحاطته بكل شيء سيكون، حينئذٍ صار شريكاً،
وهنا نتذكر شيئاً مهماً جداً يتعلق بعلم التوحيد،
الله تبارك وتعالى واحد في ذاته
، فليس هناك ما قال الكفار من النصارى أن الله ثالث ثلاثة، لا، إنما هو إله واحد، {قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ، اللَّهُ الصَّمَدُ، لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} فالله واحد في ذاته، خلاف قول النصارى، وهو واحد في عبادته، فهو إله واحد، أي: وليس كما يقول المشركون العرب ويقولون حتى الآن، ليس الأمر كما قالوا: ما نعبدهم إلا ليقربونا إلى الله زلفى، فالله واحد أيضاً في عبادته، فمن اعتقد أن الله
واحد في ذاته لكنه عبد معه غيره فما وحده، والتوحيد الأخير أن نقول بعد أن قلنا: واحد في ذاته، وواحد في عبادته، وواحد في صفاته، فلا يجوز للمسلم أن يعتقد بأن الله عز وجل أطلع نبيه على علم الغيب كله، لأنه صار شريكاً معه في صفة الغيب، {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ في السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ}
أي: كل الغيب {إِلَّا اللَّهُ} تبارك وتعالى، انظروا يا إخواننا وتعلموا، واعلموا بأن العلم ليس أن الإنسان يسلط عقله في آية يقول: ، {قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ في السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ} إذاً: رسول الله لا يعلم شيئاً من الغيب، هذا خطأ، لماذا؟ لأن الله قال في الآية السابقة: {عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا، إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ} تمام، لا تقفوا عند قوله: فلا يظهر على غيبه كل الغيب، لا، لأنه واحد في صفاته كما هو واحد في عبادته، كما هو واحد في ذاته، فلا يجوز للمسلم أن يعتقد أن الله أعلم نبيه عليه السلام بكل ما هو كائن إلى يوم القيامة، لأن هذه صفة الله عز وجل.
فخلاصة القول : أن مثل هذا الحديث يجب أن يُفسَّر على ضوء عقيدة المسلمين المستقاة من كتاب الله كله، ومن سنة رسول الله - صلى الله عليه وآله وسلم - وحديثه كله، ولا نقف على حديث واحد، ولذلك أنا أقول الآن كلمة الختام في هذه المسألة: نحن ندعي بأننا أولاً مسلمون جميعاً والحمد لله.
لكن فيه شيء آخر ندعيه وهو أننا نحترم سلفنا الصالح من صحابة وتابعين وأئمة مجتهدين، تلقينا من طريقهم علم الكتاب والسنة والفقه والعقيدة، فَمَنْ من علماء المسلمين يقول بأن النبي - صلى الله عليه وآله وسلم - علمه الله كل شيء كما قال في الحديث القلم: «اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة» بناء على حديث مسلم، لا أعلم مسلماً عالماً سبقنا إلى مثل هذا، ولذلك لا يجوز لإنسان أن يقول خلاف ما قال علماؤنا من قبل على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم.
والحمد لله رب العالمين