سورة الفاتحة
بسم الله
تسمى "الفاتحة" لانه تفتتح بها القراءة في الصلوات، ويقال لها أيضاً "أُم الكتاب" ولها أسماء منها "الحمد" و"الشفاء" و"الواقية" و"الكافيه" و"أساس القرآن".
قال البخاري: "وسميت - أُم الكتاب - لأنه يبدأ بكتابتها في المصاحف، ويبدأ بقراءتها في الصلاة".
روى الإمام أحمد عن أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال في أُم القرآن: "هي أُم القرآن، وهي السبع المثاني، وهي القرآن العظيم" .
"ما ورد في فضل سورة الفاتحة"
أولا: عن أبي سعيد بن المعلَّى رضي اللّه عنه قال: "كنت أصلّي فدعاني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فلم أجبه حتى صلّيت، قال: فأتيته، فقال: ما منعك أن تأتيني؟ قال: قلت يا رسول اللّه إني كنت أصلي، قال: ألم يقل اللّه تعالى: {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم}؟ ثم قال: لأعلمنك أعظم سورة في القرآن قبل أن تخرج من المسجد، قال: فأخذ بيدي فلما أراد أن يخرج من المسجد قلت: يا رسول اللّه إنك قلت لأعلمنَّك أعظم سورة في القرآن، قال: نعم {الحمد للّه رب العالمين} هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته"
ثانيا: وعن أُبيّ بن كعب رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: "ما أنزل اللّه في التوراة ولا في الإنجيل مثل "أم القرآن" وهي السبع المثاني، وهي مقسومة بيني وبين عبدي نصفين"
ثالثا: وعن أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه قال: "كنّا في مسير لنا فنزلنا، فجاءت جارية فقالت: إنَّ سيّد الحي سليم (أي لديغ) وإنَّ نفرنا غُيَّب فهل منكم راق؟ فقام معها رجل ما كنا نأبنه (ما كنا نأبنه: أي نعيبه أو نتهمه) برقيه، فرقاه فبرأ، فأمر له بثلاثين شاة، وسقانا لبناً، فلما رجع قلنا له: أكنت تحسن؟ أو كنت ترقي؟ قال: لا، ما رقيتُ إلاّ بأم الكتاب، قلنا: لا تحدثوا شيئاً حتى نأتي أو نسأل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فلما قدمنا المدينة ذكرناه للنبي صلى اللّه عليه وسلم فقال: "وما كان يدريه أنها رُقْية؟ إقسموا واضربوا لي بسهم" (رواه البخاري وفي بعض روايات مسلم أن (أبا سعيد الخدري) وهو الذي رقى ذلك اللديغ) .
رابعاً: وعن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال: بينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعنده جبريل، إذ سمع نقيضاً فوقه، فرفع جبريل بصره إلى السماء فقال: هذا باب قد فتح من السماء ما فتح قط، قال: فنزل منه ملك، فأتى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال: أبشر بنورين قد أوتيتهما لم يؤتهما نبيٌ قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لم تقرأ حرفاً منها إلا أوتيته" (رواه مسلم عن ابن عباس. ومعنى قوله (نقيضا) أي صوتاً) .
خامساً: وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: " من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خِداجٌ - ثلاثاً - غير تمام" فقيل لأبي هريرة: إنّا نكون وراء الإمام؟ فقال: اقرأ بها في نفسك، فإني سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: قال اللّه عزّ وجلّ "قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: {الحمد لله رب العالمين} قال اللّه: حمدني عبدي، وإذا قال: {الرحمن الرحيم} قال اللّه: أثنى عليَّ عبدي، فإذا قال: {مالك يوم الدين} قال: مجّدني عبدي، وقال مرة: فوّض إليّ عبدي، فإذا قال: {إياك نعبد وإياك نستعين} قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال: {اهدنا الصراط المستقيم.صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل" (رواه مسلم عن أبي هريرة)
"الكلام على ما يختص بهذا الحديث مما يختص بالفاتحة"
أولا: أطلق فيه لفظ "الصلاة" والمراد القراءة كقوله تعالى: {ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها} أي بقراءتك، فدل على عظم القراءة في الصلاة، وأنها من أكبر أركانها، كما أطلق لفظ القراءة والمراد به الصلاة في قوله {وقرآن الفجر} والمراد صلاة الفجر.
ثانيا: واختلفوا في مسألة وهي: هل تتعيّن للقراءة في الصلاة فاتحة الكتاب أم يجزىء غيرها؟ على قولين مشهورين:
ا - فعند أبي حنيفة ومن وافقه من أصحابه أنها لا تتعين، بل مهما قرأ به من القرآن أجزأه، واستدلوا بعموم قوله تعالى: {فاقرءوا ما تيسر من القرآن} وبما ثبت في الصحيحين من حديث المسيء صلاته، وفيه أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال له: "ثم اقرأ ما تيسَّر معك من القرآن" فأمره بقراءة ما تيسّر، ولم يعيّن له الفاتحة.
ب - والقول الثاني أنه يعين قراءة الفاتحة، ولا تجزىء الصلاة بدونها، وهو قول بقيه الأئمة (مالك والشافعي وأحمد) واحتجوا بهذا الحديث " فهي خداج" والخداج هو الناقص كما فسّر به في الحديث "غير تمام" واحتجوا بحديث "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" (رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي اللّه عنه)
وبحديث "لا تجزىء صلاةٌ لا يُقرأ فيها بأُم القرآن"
ثالثا: (مسألة) هل تجب قراءة الفاتحة على المأموم؟ فيه ثلاثة أقوال للعلماء:
أحدها: أنه تجب عليه قراءتها كما تجب على الإمام لعموم الأحاديث المتقدمة.
والثاني: لا تجب على المأموم قراءة بالكلية، لا في الجهرية ولا في السرية لقوله عليه السلام:
"من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة"
والثالث: تجب القراءة على المأموم في (السرية) لا في (الجهرية) لما ثبت عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: "إنما جُعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبّر فكبّروا، وإذا قرأ فأنصتوا" (رواه مسلم عن أبي موسى الأشعري) .
تفسير الاستعاذة
- 1 - قال اللّه تعالى: {وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم}
- 2 - وقال تعالى: {وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين. وأعوذ بك رب أن يَحضرون}.
- 3 - وقال تعالى: {وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم. وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم}.
فهذه ثلاث أيات ليس لهنَّ رابعة في معناها.فاللّه تعالى يأمر بمصانعة (العدوّ الأنسي) والإحسان إليه، ليرده عنه طبعه إلى الموالاة والمصافاة.ويأمر بالاستعاذة من (العدوّ الشيطاني) لا محالة، إذ لا يقبل مصانعة ولا إحسانا، ولا يبتغي غير هلاك ابن آدم، لشدة العداوة بينه وبين أبيه آدم كما قال تعالى:
{إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا} وقال تعالى: {أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو}؟
وقد أقسم لآدم وكذب عليه، فكيف معاملته لنا وقد قال: {فبعزتك لأغوينهم أجمعين}؟
فإذا قرأت القرآن
وقالت طائفة من القراء: يتعوذ بعد القراءة، واعتمدوا على ظاهر سياق الآية.
والمشهور الذي عليه الجمهور: أن الاستعاذة إنما تكون قبل التلاوة لدفع الموسوس عنها، ومعنى الآية {فإذا قرأت القرآن} أي إذا أردت القراءة، كقوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا} أي إذا أردتم القيام، ويدل عليه ما روي أن النبي صلى اللّه عليه وسلم كان إذا قام من الليل استفتح صلاته بالتكبير والثناء ثم يقول:" أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، من همزه ونفخه ونفثه"
(رواه أحمد عن أبي سعيد الخدري وأخرجه أصحاب السنن الأربعة)
ومعنى: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم"
أي أستجير بجناب اللّه من الشيطان الرجيم أن يضرني في ديني أو دنياي، أو يصدّني عن فعل ما أُمرت به، فإن الشيطان لا يكفه عن الإنسان إلا اللّه، والاستعاذة: هي الإلتجاء إلى اللّه تعالى من شر كل ذي شر، والعياذة تكون لدفع الشر، واللياذُ يكون لطلب الخير كما قال المتنبي:
يا من ألوذُ به فيما أؤمله * ومن أعوذ به ممّا أحاذره
لا يجبرُ الناسُ عظماً أنت كاسره * ولا يهيضون عظما أنت جابره
و (الشيطان) في لغة العرب مشتق من شطن إذا بعد، فهو بعيد بفسقه عن كل خير، وقيل: من شاط لأنه مخلوق من نار والأول أصح، فالشيطان مشتق من البعد على الصحيح ولهذا يسمون كل متمرد من جني وإنسي وحيوانٍ "شيطانا"
قال تعالى{شياطين الإنس والجن} وركب عمر برذوناً فجعل يتبختر به، فضربه فلم يزدد إلا تبختراً، فنزل عنه وقال: ما حملتموني إلا على شيطان لقد أنكرت نفسي
و (الرجيم) ، أي أنه مرجومٌ مطرودٌ عن الخير كما قال تعالى: {وجعلناها رجوما للشياطين}
تفسير البسملة
- بسم الله الرحمن الرحيم
روي عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان لا يعرف فصل السورة حتى ينزل عليه {بسم الله الرحمن الرحيم}
وقد افتتح بها الصحابة كتاب اللّه، ولهذا تُستحب في أول كل قولٍ وعمل لقوله عليه السلام:
"كل أمر لا يبدأ فيه ببسم اللّه الرحمن الرحيم فهو أجذم"
1-فتستحب في أول الوضوء لقوله عليه السلام: "لا وضوء لمن لم يذكر اسم اللّه عليه"
2-وتستحب عند الذبيحة في مذهب الشافعي وأوجبها آخرون،
3-وتستحب عن الأكل لقوله عليه السلام: " قل: بسم اللّه، وكلْ بيمينك، وكلْ ممّا يليك" (رواه مسلم
4-وتستحب عند الجماع لقوله عليه السلام: "لو أنَّ أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال: بسم اللّه، اللهم جنبنا الشيطان وجنّب الشيطان ما رزقتنا، فإنه أن يُقدَّر بينهما ولدٌ لم يضره الشيطان أبداً"
(رواه الشيخان عن ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم )
(بسم اللّه) المعنى: باسم اللّه ابتدائي، : أبدأ باسم اللّه، أو ابتدأت باسم اللّه، ويدل للأول قوله تعالى: {بسم الله مجريها ومرساها} ويدل للثاني في قوله تعالى: {اقرأ باسم ربك الذي خلق}.
و (اللّه) علمٌ على الربّ تبارك وتعالى يقال إنه (الأسم الأعظم) لأنه يوصف بجميع الصفات كما قال تعالى: {هو الله الذي لا إله إلى هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم} الآيات، فأجرى الأسماء الباقية كلها صفات كما قال تعالى: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها}
وقال تعالى: {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى}
وفي الصحيحين: "إنّ للّه تسعة وتسعين اسماً، مائة إلا واحداً، من أحصاها دخل الجنة" رواه الشيخان عن أبي هريرة
وهو اسم لم يسمّ به غيره تبارك وتعالى ولهذا لا يعرف له - في كلام العرب - اشتقاقٌ، فهو اسم جامد وقيل: : مشتقُّ من وله إذا تحيّر، لأنه تعالى يحير في الفكر في حقائق صفاته، وقيل: مشتقُّ من ألهتُ إلى فلان: أي سكنت إليه، فالعقول لا تسكن إلا إلى ذكره، والأرواح لا تفرح إلا بمعرفته، لأنه الكامل على الإطلاق دون غيره، قال تعالى: {ألا بذكر اللّهِ تطمئنُ القلوب
{الرحمن الرحيم} اسمان مشتقان من الرحمة على وجه المبالغة، و{رحمن} أشد مبالغة من {رحيم} ، قال القرطبي: والدليل على أنه مشتق ما روي في الحديث القدسي: "أنا الرحمن خلقتُ الرحم وشققت لها اسماً من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته"
وإنكار العرب لاسم {الرحمن} لجهلهم باللّه وبما وجب له، قال ابن جرير: {الرحمن} لجميع الخلق، {الرحيم} بالمؤمنين، ولهذا قال تعالى {الرحمن على العرش استوى} فذكر الاستواء باسمه الرحمن ليعمّ جميع خلقه برحمته، وقال: {وكان بالمؤمنين رحيما} فخصهم باسمه الرحيم.
فدلّ على أن {الرحمن} أشد مبالغة في الرحمة لعمومها في الدارين لجميع خلقه، و {الرحيم} خاصة بالمؤمنين، واسمه تعالى {الرحمن} خاص لم يسم به غيره، قال تعالى: {قل ادعوا اللّه أو ادعوا الرحمن} وقال تعالى: {أجعلنا من دون الرحمن آلهة يُعبدون}؟ ولما تجرأ مسيلمة الكذاب وتسمى برحمن اليمامة كساه اللّه جلباب الكذب وشهر به، فلا يقال إلا (مسيلمة الكذّاب) فصار يضرب به المثل في الكذب بين أهل الحضر والمدر.
2 - الحمد لله رب العالمين
قال ابن جرير: معنى {الحمد للّه} الشكر للّه خالصاً دون سائر ما يعبد من دونه، ودون كل ما برأ من خلقه، بما أنعم على عباده من النعم التي لا يحصيها العدد، ولا يحيط بعددها غيره أحد، في تصحيح الآلات لطاعته، وتمكين جوارح المكلفين لأداء فرائضه، مع ما بسط لهم في دنياهم من الرزق، وغذاهم به من نعيم العيش، فلربنا الحمد على ذلك كله أولاً وآخراً،
{الحمد للّه} ثناءٌ أثنى به على نفسه، وفي ضمنه أمر عباده أن يثنوا عليه فكأنه قال: قولوا الحمد للّه، ثم قال:
و: الحمد نقيض الذم تقول: ، والحمد أعمّ من الشكر، والشكرُ هو الثناء على المحسن بما أولاه من المعروف، يقال، شكرته وشكرتُ له وباللام أفصح، وأما المدح فهو أعمّ من الحمد لأنه يكون للحي، وللميت، وللجماد، كما يمدح الطعام والمكان ونحو ذلك، ويكون قبل الإحسان وبعده على الصفات المتعديه واللازمة أيضاً فهو أعم.
وفي الحديث الشريف عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: أفضلُ الذكر لا إله إلا اللّه، وأفضل الدعاء الحمدُ للّه
وعنه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: "ما أنعم اللّه على عبدٍ نعمة فقال: الحمد للّه، إلاّ كان الذي أعطَى أفضل مما أخذ
وعن ابن عمر أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حدَّثهم "أن عبداً من عباد اللّه قال: يا رب لك الحمدُ كما ينبغي لجلال وجهك، وعظيم سلطانك، فعضلت بالملكين فلم يدريا كيف يكتبانها فصعدا إلى اللّه فقالا: يا ربنا إن عبداً قد قال مقالة لا ندري كيف نكتبها، قال اللّه - وهو أعلم بما قال عبده - ماذا قال عبدي؟ قالا: يا رب إنه قال: لك الحمد يا رب كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، فقال اللّه لهما: اكتباها كما قال عبدي حتى يلقاني فأجزيه بها (رواه ابن ماجة عن ابن عمر) "
والألف واللاّم في (الحمد) لاستغراق جميع أجناس الحمد وصنوفه للّه تعالى كما جاء في الحديث: "اللهم لك الحمد كُلُّه، ولك الملك كلُّه، وبيدك الخير كلُّه، وإليك يرجع الأمر كلُّه" الحديث.
{رب العالمين} الربُّ هو المالك المتصرف، ، ولا يستعمل الرب لغير اللّه إلا بالإضافة، تقول ربُّ الدار، وأما الرب فلا يقال إلا للّه عزّ وجلّ. و{العالمين} جمع عالم وهو كل موجود سوى اللّه عزّ وجلّ، والعوالم أصناف المخلوقات في السماوات، وفي البر، والبحر.و: العالم كلٌّ ما خلق اللّه في الدنيا والآخرة،
قال تعالى: {قال فرعون وما ربُّ العالمين؟ قال ربُّ السموات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين} والعالم مشتقٌ من العلامة، لأنه دال على وجود خالقه وصانعه وعلى وحدانيته جلَّ وعلا كما
قال ابن المعتز:
فيا عجباً كيف يعصى الإل * ه أم كيف يجحده الجاحد
وفي كل شيء له آية * تدل على أنه واحد
3 - الرحمن الرحيم
وقوله تعالى {الرحمن الرحيم} قال القرطبي: إنما وصف نفسه بالرحمن الرحيم بعد قوله {رب العالمين} ليكون من باب قرن (الترغيب بالترهيب) كما قال تعالى: {نبىء عبادي أني أنا الغفور الرحيم، وأنَّ عذابي هو العذاب الأليم} وقوله: {إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم} فالرب فيه ترهيب، والرحمن الرحيم ترغيب، وفي الحديث: "لو يعلم المؤمن ما عند اللّه من العقوبه ما طمع في جنته أحد، ولو يعلم الكافر ما عند اللّه من الرحمة ما قنط من رحمته أحد (رواه مسلم عن أبي هريرة مرفوعاً) "
4 - مالك [ملك] يوم الدين
قرأ بعض القراء (مَلِك) وقرأ آخرون (مالك) وكلاهما صحيح متواتر وتخصيص الملك بيوم الدين لا ينفيه عما عداه لأنه قد تقدم الإخبار بأنه رب العالمين وذلك عام في الدنيا والآخرة، وإنما أضيف إلى يوم الدين لأنه لا يدعي أحد هناك كل شيئاً، ولا يتكلم أحد إلا بإذنه كما قال تعالى {لا يتكلمون إلاّ من أذن له الرحمن وقال صوابا}، وقال تعالى: {يوم يأتي لا تكَلَّمُ نفسٌ إلا بإذنه}، وعن ابن عباس قال: يوم الدين يوم الحساب للخلائق، يدينهم بأعمالهم إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، إلا من عفا عنه.
والمِلْكُ في الحقيقة هو اللّه عز وجل، فأما تسمية غيره في الدنيا بملك فعلى سبيل المجاز، وفي الصحيحين عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: يقبض اللّه الأرض ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك أين ملوك الأرض؟ أين الجبارون؟ أين المتكبرون (رواه الشيخان عن أبي هريرة مرفوعاً)
و (الدين) : الجزاء والحساب كما قال تعالى {إئنا لمدينون} أي مجزيون محاسبون، وفي الحديث: "الكيّسُ من دان نفسه وعمل لما بعد الموت" ( أي حاسب نفسه، وعن عمر رضي اللّه عنه:
"حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا".
5 - إياك نعبد وإياك نستعين
العبادةُ في اللغة: مأخوذة من الذلة، يقال: طريقٌ معبّد، وبعيرٌ معبَّد أي مذلّل.
وفي الشرع: هي ما يجمع كمال المحبة والخضوع والخوف، ، أي لا نعبد إلا إياك ولا نتوكل إلا عليك، وهذا هو كمال الطاعة، والدين يرجع كله إلى هذين المعنيين، فالأول تبرؤ من الشرك والثاني تبرؤٌ من الحول والقوة والتفويض إلى اللّه عزّ وجلّ، وهذا المعنى في غير آيةٍ من القرآن: {فاعبده وتوكل عليه}، {قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا}
6 - اهدنا الصراط المستقيم
لما تقدم الثناء على المسؤول تبارك وتعالى ناسب أن يعقب بالسؤال، وهذا أكمل أحوال السائل أن يمدح مسؤوله ثم يسأل حاجته، لأنه أنجح للحاجة، وأنجع للإجابة ولهذا أرشد اللّه إليه لأنه الأكمل.
والهداية ههنا: الإرشاد والتوفيق {اهدنا الصراط} أي وفقنا وجعلنا له أهلاً، وأمّا {الصراط المستقيم} : الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه وهو (المتابعة للّه وللرسول) فروي أنه كتاب اللّه، وقيل: إنه الإسلام، قال ابن عباس: هو دين اللّه الذي لا اعوجاج فيه،
وقد فسّر الصراط بالإسلام في حديث (النوالس بن سمعان) عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: "ضرب اللّه مثلاً صراطاً مستقيماً، وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبوابٌ مفتَّحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى باب الصراط داعٍ يقول: يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعاً ولا تعوجوا، وداعٍ يدعوا من فوق الصراط، فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئاً من تلك الأبواب قال: ويْحك لا تفتحه، فإنك إن تفتحه تلجْه، فالصراط الإسلام، والسوران حدود اللّه، والأبواب المفتحة محارم اللّه وذلك الداعي على رأس لاصراط كتاب اللّه، والداعي من فوق الصراط واعظ اللّه في قلب كل مسلم
7 - صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين
قوله تعالى {صراط الذين أنعمت عليهم} مفسّر للصراط المستقيم، والذين أنعم اللّه عليهم هم المذكورون في سورة النساء: {ومن يطع اللّه والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن ألوئك رفيقا}،
وعن ابن عباس: صراط الذين أنعمتَ عليهم بطاعتك وعبادتك من ملائكتك وأنبيائك والصدّيقين والشهداء والصالحين، .وقوله تعالى {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} ، والمعنى: اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم ممن تقدم وصفهم ونعتهم، وهم أهل الهداية والاستقامة، غير صراط المغضوب عليهم وهم الذين علموا الحق وعدلوا عنه، ولا صراط الضالين وهم الذين فقدوا العلم، فهم هائمون في الضلالة لا يهتدون إلى الحق، وأكد الكلام على أن ثَمَّ مسلكين فاسدين وهما: طريقة اليهود، وطريقة النصارى، ، فإن طريقة أهل الإيمان مشتملة على العلم بالحق والعمل به، واليهودُ فقدوا العمل، والنصارى فقدوا العلم، ولهذا كان الغضب لليهود، والضلال للنصارى، لكنْ أخصُّ أوصاف اليهود الغضب كما قال تعالى عنهم: {من لعنه الله وغضب عليه} وأخص أوصاف النصارى الضلال كما قال تعالى عنهم: {قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وأضلوا عن سواء السبيل} وبهذا وردت الأحاديث والآثار، فقد روي عن عدي بن حاتم أنه قال: سألت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن قوله تعالى: {غير المغضوب عليهم} قال: هم اليهود {ولا الضالين} قال: النصارى
ويستحب لمن يقرأ الفاتحة أن يقول بعدها: (آمين) ومعناه: اللهم استجب، لما روي عن أبي هريرة أنه قال: "كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا تلا {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} قال: آمين حتى يسمع من يليه من الصف الأول" (فيرتج بها المسجد)
(فيما اشتملت هذه السورة الكريمة - وهي سبع آيات - على حمد اللّه وتمجيده والثناء عليه بذكر أسمائه الحسنى المستلزمة لصفاته العليا، وعلى ذكر المعاد وهو (يوم الدين) وعلى إرشاده عبيده إلى سؤاله، والتضرع إليه، والتبرىء من حولهم وقوّتهم، إلى إخلاص العبادة له وتوحيده بالألوهية تبارك وتعالى، وتنزيهه أن يكون له شريك أو نظير أو مماثل، وإلى سؤالهم إياه الهداية إلى الصراط المستقيم وهو (الدين القويم) وتثبيتهم عليه حتى يقضي لهم بذلك إلى جواز الصراط يوم القيامة، المفضي بهم إلى جنّات النَّعيم، في جوار النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين.واشتملت على الترغيب في الأعمال الصالحة ليكونوامع أهلها يوم القيامة، والتحذير من مسالك الباطل لئلا يحشروا مع سالكيها يوم القيامة وهم المغضوب عليهم والضّالّون.
بسم الله
تسمى "الفاتحة" لانه تفتتح بها القراءة في الصلوات، ويقال لها أيضاً "أُم الكتاب" ولها أسماء منها "الحمد" و"الشفاء" و"الواقية" و"الكافيه" و"أساس القرآن".
قال البخاري: "وسميت - أُم الكتاب - لأنه يبدأ بكتابتها في المصاحف، ويبدأ بقراءتها في الصلاة".
روى الإمام أحمد عن أبي هريرة عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال في أُم القرآن: "هي أُم القرآن، وهي السبع المثاني، وهي القرآن العظيم" .
"ما ورد في فضل سورة الفاتحة"
أولا: عن أبي سعيد بن المعلَّى رضي اللّه عنه قال: "كنت أصلّي فدعاني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فلم أجبه حتى صلّيت، قال: فأتيته، فقال: ما منعك أن تأتيني؟ قال: قلت يا رسول اللّه إني كنت أصلي، قال: ألم يقل اللّه تعالى: {يا أيها الذين آمنوا استجيبوا لله وللرسول إذا دعاكم لما يحييكم}؟ ثم قال: لأعلمنك أعظم سورة في القرآن قبل أن تخرج من المسجد، قال: فأخذ بيدي فلما أراد أن يخرج من المسجد قلت: يا رسول اللّه إنك قلت لأعلمنَّك أعظم سورة في القرآن، قال: نعم {الحمد للّه رب العالمين} هي السبع المثاني والقرآن العظيم الذي أوتيته"
ثانيا: وعن أُبيّ بن كعب رضي اللّه عنه أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: "ما أنزل اللّه في التوراة ولا في الإنجيل مثل "أم القرآن" وهي السبع المثاني، وهي مقسومة بيني وبين عبدي نصفين"
ثالثا: وعن أبي سعيد الخدري رضي اللّه عنه قال: "كنّا في مسير لنا فنزلنا، فجاءت جارية فقالت: إنَّ سيّد الحي سليم (أي لديغ) وإنَّ نفرنا غُيَّب فهل منكم راق؟ فقام معها رجل ما كنا نأبنه (ما كنا نأبنه: أي نعيبه أو نتهمه) برقيه، فرقاه فبرأ، فأمر له بثلاثين شاة، وسقانا لبناً، فلما رجع قلنا له: أكنت تحسن؟ أو كنت ترقي؟ قال: لا، ما رقيتُ إلاّ بأم الكتاب، قلنا: لا تحدثوا شيئاً حتى نأتي أو نسأل رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فلما قدمنا المدينة ذكرناه للنبي صلى اللّه عليه وسلم فقال: "وما كان يدريه أنها رُقْية؟ إقسموا واضربوا لي بسهم" (رواه البخاري وفي بعض روايات مسلم أن (أبا سعيد الخدري) وهو الذي رقى ذلك اللديغ) .
رابعاً: وعن ابن عباس رضي اللّه عنهما قال: بينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وعنده جبريل، إذ سمع نقيضاً فوقه، فرفع جبريل بصره إلى السماء فقال: هذا باب قد فتح من السماء ما فتح قط، قال: فنزل منه ملك، فأتى النبي صلى اللّه عليه وسلم فقال: أبشر بنورين قد أوتيتهما لم يؤتهما نبيٌ قبلك: فاتحة الكتاب، وخواتيم سورة البقرة، لم تقرأ حرفاً منها إلا أوتيته" (رواه مسلم عن ابن عباس. ومعنى قوله (نقيضا) أي صوتاً) .
خامساً: وعن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: " من صلى صلاة لم يقرأ فيها بأم القرآن فهي خِداجٌ - ثلاثاً - غير تمام" فقيل لأبي هريرة: إنّا نكون وراء الإمام؟ فقال: اقرأ بها في نفسك، فإني سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: قال اللّه عزّ وجلّ "قسمت الصلاة بيني وبين عبدي نصفين، ولعبدي ما سأل، فإذا قال العبد: {الحمد لله رب العالمين} قال اللّه: حمدني عبدي، وإذا قال: {الرحمن الرحيم} قال اللّه: أثنى عليَّ عبدي، فإذا قال: {مالك يوم الدين} قال: مجّدني عبدي، وقال مرة: فوّض إليّ عبدي، فإذا قال: {إياك نعبد وإياك نستعين} قال: هذا بيني وبين عبدي ولعبدي ما سأل، فإذا قال: {اهدنا الصراط المستقيم.صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين} قال: هذا لعبدي ولعبدي ما سأل" (رواه مسلم عن أبي هريرة)
"الكلام على ما يختص بهذا الحديث مما يختص بالفاتحة"
أولا: أطلق فيه لفظ "الصلاة" والمراد القراءة كقوله تعالى: {ولا تجهر بصلاتك ولا تخافت بها} أي بقراءتك، فدل على عظم القراءة في الصلاة، وأنها من أكبر أركانها، كما أطلق لفظ القراءة والمراد به الصلاة في قوله {وقرآن الفجر} والمراد صلاة الفجر.
ثانيا: واختلفوا في مسألة وهي: هل تتعيّن للقراءة في الصلاة فاتحة الكتاب أم يجزىء غيرها؟ على قولين مشهورين:
ا - فعند أبي حنيفة ومن وافقه من أصحابه أنها لا تتعين، بل مهما قرأ به من القرآن أجزأه، واستدلوا بعموم قوله تعالى: {فاقرءوا ما تيسر من القرآن} وبما ثبت في الصحيحين من حديث المسيء صلاته، وفيه أن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال له: "ثم اقرأ ما تيسَّر معك من القرآن" فأمره بقراءة ما تيسّر، ولم يعيّن له الفاتحة.
ب - والقول الثاني أنه يعين قراءة الفاتحة، ولا تجزىء الصلاة بدونها، وهو قول بقيه الأئمة (مالك والشافعي وأحمد) واحتجوا بهذا الحديث " فهي خداج" والخداج هو الناقص كما فسّر به في الحديث "غير تمام" واحتجوا بحديث "لا صلاة لمن لم يقرأ بفاتحة الكتاب" (رواه الشيخان عن أبي هريرة رضي اللّه عنه)
وبحديث "لا تجزىء صلاةٌ لا يُقرأ فيها بأُم القرآن"
ثالثا: (مسألة) هل تجب قراءة الفاتحة على المأموم؟ فيه ثلاثة أقوال للعلماء:
أحدها: أنه تجب عليه قراءتها كما تجب على الإمام لعموم الأحاديث المتقدمة.
والثاني: لا تجب على المأموم قراءة بالكلية، لا في الجهرية ولا في السرية لقوله عليه السلام:
"من كان له إمام فقراءة الإمام له قراءة"
والثالث: تجب القراءة على المأموم في (السرية) لا في (الجهرية) لما ثبت عن النبي صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: "إنما جُعل الإمام ليؤتم به، فإذا كبّر فكبّروا، وإذا قرأ فأنصتوا" (رواه مسلم عن أبي موسى الأشعري) .
تفسير الاستعاذة
- 1 - قال اللّه تعالى: {وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه سميع عليم}
- 2 - وقال تعالى: {وقل رب أعوذ بك من همزات الشياطين. وأعوذ بك رب أن يَحضرون}.
- 3 - وقال تعالى: {وما يلقاها إلا ذو حظ عظيم. وإما ينزغنك من الشيطان نزغ فاستعذ بالله إنه هو السميع العليم}.
فهذه ثلاث أيات ليس لهنَّ رابعة في معناها.فاللّه تعالى يأمر بمصانعة (العدوّ الأنسي) والإحسان إليه، ليرده عنه طبعه إلى الموالاة والمصافاة.ويأمر بالاستعاذة من (العدوّ الشيطاني) لا محالة، إذ لا يقبل مصانعة ولا إحسانا، ولا يبتغي غير هلاك ابن آدم، لشدة العداوة بينه وبين أبيه آدم كما قال تعالى:
{إن الشيطان لكم عدو فاتخذوه عدوا} وقال تعالى: {أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو}؟
وقد أقسم لآدم وكذب عليه، فكيف معاملته لنا وقد قال: {فبعزتك لأغوينهم أجمعين}؟
فإذا قرأت القرآن
وقالت طائفة من القراء: يتعوذ بعد القراءة، واعتمدوا على ظاهر سياق الآية.
والمشهور الذي عليه الجمهور: أن الاستعاذة إنما تكون قبل التلاوة لدفع الموسوس عنها، ومعنى الآية {فإذا قرأت القرآن} أي إذا أردت القراءة، كقوله تعالى: {إذا قمتم إلى الصلاة فاغسلوا} أي إذا أردتم القيام، ويدل عليه ما روي أن النبي صلى اللّه عليه وسلم كان إذا قام من الليل استفتح صلاته بالتكبير والثناء ثم يقول:" أعوذ بالله السميع العليم من الشيطان الرجيم، من همزه ونفخه ونفثه"
(رواه أحمد عن أبي سعيد الخدري وأخرجه أصحاب السنن الأربعة)
ومعنى: "أعوذ بالله من الشيطان الرجيم"
أي أستجير بجناب اللّه من الشيطان الرجيم أن يضرني في ديني أو دنياي، أو يصدّني عن فعل ما أُمرت به، فإن الشيطان لا يكفه عن الإنسان إلا اللّه، والاستعاذة: هي الإلتجاء إلى اللّه تعالى من شر كل ذي شر، والعياذة تكون لدفع الشر، واللياذُ يكون لطلب الخير كما قال المتنبي:
يا من ألوذُ به فيما أؤمله * ومن أعوذ به ممّا أحاذره
لا يجبرُ الناسُ عظماً أنت كاسره * ولا يهيضون عظما أنت جابره
و (الشيطان) في لغة العرب مشتق من شطن إذا بعد، فهو بعيد بفسقه عن كل خير، وقيل: من شاط لأنه مخلوق من نار والأول أصح، فالشيطان مشتق من البعد على الصحيح ولهذا يسمون كل متمرد من جني وإنسي وحيوانٍ "شيطانا"
قال تعالى{شياطين الإنس والجن} وركب عمر برذوناً فجعل يتبختر به، فضربه فلم يزدد إلا تبختراً، فنزل عنه وقال: ما حملتموني إلا على شيطان لقد أنكرت نفسي
و (الرجيم) ، أي أنه مرجومٌ مطرودٌ عن الخير كما قال تعالى: {وجعلناها رجوما للشياطين}
تفسير البسملة
- بسم الله الرحمن الرحيم
روي عن ابن عباس رضي اللّه عنهما أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم كان لا يعرف فصل السورة حتى ينزل عليه {بسم الله الرحمن الرحيم}
وقد افتتح بها الصحابة كتاب اللّه، ولهذا تُستحب في أول كل قولٍ وعمل لقوله عليه السلام:
"كل أمر لا يبدأ فيه ببسم اللّه الرحمن الرحيم فهو أجذم"
1-فتستحب في أول الوضوء لقوله عليه السلام: "لا وضوء لمن لم يذكر اسم اللّه عليه"
2-وتستحب عند الذبيحة في مذهب الشافعي وأوجبها آخرون،
3-وتستحب عن الأكل لقوله عليه السلام: " قل: بسم اللّه، وكلْ بيمينك، وكلْ ممّا يليك" (رواه مسلم
4-وتستحب عند الجماع لقوله عليه السلام: "لو أنَّ أحدكم إذا أراد أن يأتي أهله قال: بسم اللّه، اللهم جنبنا الشيطان وجنّب الشيطان ما رزقتنا، فإنه أن يُقدَّر بينهما ولدٌ لم يضره الشيطان أبداً"
(رواه الشيخان عن ابن عباس عن النبي صلى اللّه عليه وسلم )
(بسم اللّه) المعنى: باسم اللّه ابتدائي، : أبدأ باسم اللّه، أو ابتدأت باسم اللّه، ويدل للأول قوله تعالى: {بسم الله مجريها ومرساها} ويدل للثاني في قوله تعالى: {اقرأ باسم ربك الذي خلق}.
و (اللّه) علمٌ على الربّ تبارك وتعالى يقال إنه (الأسم الأعظم) لأنه يوصف بجميع الصفات كما قال تعالى: {هو الله الذي لا إله إلى هو عالم الغيب والشهادة هو الرحمن الرحيم} الآيات، فأجرى الأسماء الباقية كلها صفات كما قال تعالى: {ولله الأسماء الحسنى فادعوه بها}
وقال تعالى: {قل ادعوا الله أو ادعوا الرحمن أيا ما تدعوا فله الأسماء الحسنى}
وفي الصحيحين: "إنّ للّه تسعة وتسعين اسماً، مائة إلا واحداً، من أحصاها دخل الجنة" رواه الشيخان عن أبي هريرة
وهو اسم لم يسمّ به غيره تبارك وتعالى ولهذا لا يعرف له - في كلام العرب - اشتقاقٌ، فهو اسم جامد وقيل: : مشتقُّ من وله إذا تحيّر، لأنه تعالى يحير في الفكر في حقائق صفاته، وقيل: مشتقُّ من ألهتُ إلى فلان: أي سكنت إليه، فالعقول لا تسكن إلا إلى ذكره، والأرواح لا تفرح إلا بمعرفته، لأنه الكامل على الإطلاق دون غيره، قال تعالى: {ألا بذكر اللّهِ تطمئنُ القلوب
{الرحمن الرحيم} اسمان مشتقان من الرحمة على وجه المبالغة، و{رحمن} أشد مبالغة من {رحيم} ، قال القرطبي: والدليل على أنه مشتق ما روي في الحديث القدسي: "أنا الرحمن خلقتُ الرحم وشققت لها اسماً من اسمي، فمن وصلها وصلته، ومن قطعها قطعته"
وإنكار العرب لاسم {الرحمن} لجهلهم باللّه وبما وجب له، قال ابن جرير: {الرحمن} لجميع الخلق، {الرحيم} بالمؤمنين، ولهذا قال تعالى {الرحمن على العرش استوى} فذكر الاستواء باسمه الرحمن ليعمّ جميع خلقه برحمته، وقال: {وكان بالمؤمنين رحيما} فخصهم باسمه الرحيم.
فدلّ على أن {الرحمن} أشد مبالغة في الرحمة لعمومها في الدارين لجميع خلقه، و {الرحيم} خاصة بالمؤمنين، واسمه تعالى {الرحمن} خاص لم يسم به غيره، قال تعالى: {قل ادعوا اللّه أو ادعوا الرحمن} وقال تعالى: {أجعلنا من دون الرحمن آلهة يُعبدون}؟ ولما تجرأ مسيلمة الكذاب وتسمى برحمن اليمامة كساه اللّه جلباب الكذب وشهر به، فلا يقال إلا (مسيلمة الكذّاب) فصار يضرب به المثل في الكذب بين أهل الحضر والمدر.
2 - الحمد لله رب العالمين
قال ابن جرير: معنى {الحمد للّه} الشكر للّه خالصاً دون سائر ما يعبد من دونه، ودون كل ما برأ من خلقه، بما أنعم على عباده من النعم التي لا يحصيها العدد، ولا يحيط بعددها غيره أحد، في تصحيح الآلات لطاعته، وتمكين جوارح المكلفين لأداء فرائضه، مع ما بسط لهم في دنياهم من الرزق، وغذاهم به من نعيم العيش، فلربنا الحمد على ذلك كله أولاً وآخراً،
{الحمد للّه} ثناءٌ أثنى به على نفسه، وفي ضمنه أمر عباده أن يثنوا عليه فكأنه قال: قولوا الحمد للّه، ثم قال:
و: الحمد نقيض الذم تقول: ، والحمد أعمّ من الشكر، والشكرُ هو الثناء على المحسن بما أولاه من المعروف، يقال، شكرته وشكرتُ له وباللام أفصح، وأما المدح فهو أعمّ من الحمد لأنه يكون للحي، وللميت، وللجماد، كما يمدح الطعام والمكان ونحو ذلك، ويكون قبل الإحسان وبعده على الصفات المتعديه واللازمة أيضاً فهو أعم.
وفي الحديث الشريف عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: أفضلُ الذكر لا إله إلا اللّه، وأفضل الدعاء الحمدُ للّه
وعنه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: "ما أنعم اللّه على عبدٍ نعمة فقال: الحمد للّه، إلاّ كان الذي أعطَى أفضل مما أخذ
وعن ابن عمر أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم حدَّثهم "أن عبداً من عباد اللّه قال: يا رب لك الحمدُ كما ينبغي لجلال وجهك، وعظيم سلطانك، فعضلت بالملكين فلم يدريا كيف يكتبانها فصعدا إلى اللّه فقالا: يا ربنا إن عبداً قد قال مقالة لا ندري كيف نكتبها، قال اللّه - وهو أعلم بما قال عبده - ماذا قال عبدي؟ قالا: يا رب إنه قال: لك الحمد يا رب كما ينبغي لجلال وجهك وعظيم سلطانك، فقال اللّه لهما: اكتباها كما قال عبدي حتى يلقاني فأجزيه بها (رواه ابن ماجة عن ابن عمر) "
والألف واللاّم في (الحمد) لاستغراق جميع أجناس الحمد وصنوفه للّه تعالى كما جاء في الحديث: "اللهم لك الحمد كُلُّه، ولك الملك كلُّه، وبيدك الخير كلُّه، وإليك يرجع الأمر كلُّه" الحديث.
{رب العالمين} الربُّ هو المالك المتصرف، ، ولا يستعمل الرب لغير اللّه إلا بالإضافة، تقول ربُّ الدار، وأما الرب فلا يقال إلا للّه عزّ وجلّ. و{العالمين} جمع عالم وهو كل موجود سوى اللّه عزّ وجلّ، والعوالم أصناف المخلوقات في السماوات، وفي البر، والبحر.و: العالم كلٌّ ما خلق اللّه في الدنيا والآخرة،
قال تعالى: {قال فرعون وما ربُّ العالمين؟ قال ربُّ السموات والأرض وما بينهما إن كنتم موقنين} والعالم مشتقٌ من العلامة، لأنه دال على وجود خالقه وصانعه وعلى وحدانيته جلَّ وعلا كما
قال ابن المعتز:
فيا عجباً كيف يعصى الإل * ه أم كيف يجحده الجاحد
وفي كل شيء له آية * تدل على أنه واحد
3 - الرحمن الرحيم
وقوله تعالى {الرحمن الرحيم} قال القرطبي: إنما وصف نفسه بالرحمن الرحيم بعد قوله {رب العالمين} ليكون من باب قرن (الترغيب بالترهيب) كما قال تعالى: {نبىء عبادي أني أنا الغفور الرحيم، وأنَّ عذابي هو العذاب الأليم} وقوله: {إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم} فالرب فيه ترهيب، والرحمن الرحيم ترغيب، وفي الحديث: "لو يعلم المؤمن ما عند اللّه من العقوبه ما طمع في جنته أحد، ولو يعلم الكافر ما عند اللّه من الرحمة ما قنط من رحمته أحد (رواه مسلم عن أبي هريرة مرفوعاً) "
4 - مالك [ملك] يوم الدين
قرأ بعض القراء (مَلِك) وقرأ آخرون (مالك) وكلاهما صحيح متواتر وتخصيص الملك بيوم الدين لا ينفيه عما عداه لأنه قد تقدم الإخبار بأنه رب العالمين وذلك عام في الدنيا والآخرة، وإنما أضيف إلى يوم الدين لأنه لا يدعي أحد هناك كل شيئاً، ولا يتكلم أحد إلا بإذنه كما قال تعالى {لا يتكلمون إلاّ من أذن له الرحمن وقال صوابا}، وقال تعالى: {يوم يأتي لا تكَلَّمُ نفسٌ إلا بإذنه}، وعن ابن عباس قال: يوم الدين يوم الحساب للخلائق، يدينهم بأعمالهم إن خيراً فخير، وإن شراً فشر، إلا من عفا عنه.
والمِلْكُ في الحقيقة هو اللّه عز وجل، فأما تسمية غيره في الدنيا بملك فعلى سبيل المجاز، وفي الصحيحين عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: يقبض اللّه الأرض ويطوي السماء بيمينه، ثم يقول: أنا الملك أين ملوك الأرض؟ أين الجبارون؟ أين المتكبرون (رواه الشيخان عن أبي هريرة مرفوعاً)
و (الدين) : الجزاء والحساب كما قال تعالى {إئنا لمدينون} أي مجزيون محاسبون، وفي الحديث: "الكيّسُ من دان نفسه وعمل لما بعد الموت" ( أي حاسب نفسه، وعن عمر رضي اللّه عنه:
"حاسبوا أنفسكم قبل أن تحاسبوا".
5 - إياك نعبد وإياك نستعين
العبادةُ في اللغة: مأخوذة من الذلة، يقال: طريقٌ معبّد، وبعيرٌ معبَّد أي مذلّل.
وفي الشرع: هي ما يجمع كمال المحبة والخضوع والخوف، ، أي لا نعبد إلا إياك ولا نتوكل إلا عليك، وهذا هو كمال الطاعة، والدين يرجع كله إلى هذين المعنيين، فالأول تبرؤ من الشرك والثاني تبرؤٌ من الحول والقوة والتفويض إلى اللّه عزّ وجلّ، وهذا المعنى في غير آيةٍ من القرآن: {فاعبده وتوكل عليه}، {قل هو الرحمن آمنا به وعليه توكلنا}
6 - اهدنا الصراط المستقيم
لما تقدم الثناء على المسؤول تبارك وتعالى ناسب أن يعقب بالسؤال، وهذا أكمل أحوال السائل أن يمدح مسؤوله ثم يسأل حاجته، لأنه أنجح للحاجة، وأنجع للإجابة ولهذا أرشد اللّه إليه لأنه الأكمل.
والهداية ههنا: الإرشاد والتوفيق {اهدنا الصراط} أي وفقنا وجعلنا له أهلاً، وأمّا {الصراط المستقيم} : الطريق الواضح الذي لا اعوجاج فيه وهو (المتابعة للّه وللرسول) فروي أنه كتاب اللّه، وقيل: إنه الإسلام، قال ابن عباس: هو دين اللّه الذي لا اعوجاج فيه،
وقد فسّر الصراط بالإسلام في حديث (النوالس بن سمعان) عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أنه قال: "ضرب اللّه مثلاً صراطاً مستقيماً، وعلى جنبتي الصراط سوران فيهما أبوابٌ مفتَّحة، وعلى الأبواب ستور مرخاة، وعلى باب الصراط داعٍ يقول: يا أيها الناس ادخلوا الصراط جميعاً ولا تعوجوا، وداعٍ يدعوا من فوق الصراط، فإذا أراد الإنسان أن يفتح شيئاً من تلك الأبواب قال: ويْحك لا تفتحه، فإنك إن تفتحه تلجْه، فالصراط الإسلام، والسوران حدود اللّه، والأبواب المفتحة محارم اللّه وذلك الداعي على رأس لاصراط كتاب اللّه، والداعي من فوق الصراط واعظ اللّه في قلب كل مسلم
7 - صراط الذين أنعمت عليهم غير المغضوب عليهم ولا الضالين
قوله تعالى {صراط الذين أنعمت عليهم} مفسّر للصراط المستقيم، والذين أنعم اللّه عليهم هم المذكورون في سورة النساء: {ومن يطع اللّه والرسول فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن ألوئك رفيقا}،
وعن ابن عباس: صراط الذين أنعمتَ عليهم بطاعتك وعبادتك من ملائكتك وأنبيائك والصدّيقين والشهداء والصالحين، .وقوله تعالى {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} ، والمعنى: اهدنا الصراط المستقيم، صراط الذين أنعمت عليهم ممن تقدم وصفهم ونعتهم، وهم أهل الهداية والاستقامة، غير صراط المغضوب عليهم وهم الذين علموا الحق وعدلوا عنه، ولا صراط الضالين وهم الذين فقدوا العلم، فهم هائمون في الضلالة لا يهتدون إلى الحق، وأكد الكلام على أن ثَمَّ مسلكين فاسدين وهما: طريقة اليهود، وطريقة النصارى، ، فإن طريقة أهل الإيمان مشتملة على العلم بالحق والعمل به، واليهودُ فقدوا العمل، والنصارى فقدوا العلم، ولهذا كان الغضب لليهود، والضلال للنصارى، لكنْ أخصُّ أوصاف اليهود الغضب كما قال تعالى عنهم: {من لعنه الله وغضب عليه} وأخص أوصاف النصارى الضلال كما قال تعالى عنهم: {قد ضلوا من قبل وأضلوا كثيرا وأضلوا عن سواء السبيل} وبهذا وردت الأحاديث والآثار، فقد روي عن عدي بن حاتم أنه قال: سألت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم عن قوله تعالى: {غير المغضوب عليهم} قال: هم اليهود {ولا الضالين} قال: النصارى
ويستحب لمن يقرأ الفاتحة أن يقول بعدها: (آمين) ومعناه: اللهم استجب، لما روي عن أبي هريرة أنه قال: "كان رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم إذا تلا {غير المغضوب عليهم ولا الضالين} قال: آمين حتى يسمع من يليه من الصف الأول" (فيرتج بها المسجد)
(فيما اشتملت هذه السورة الكريمة - وهي سبع آيات - على حمد اللّه وتمجيده والثناء عليه بذكر أسمائه الحسنى المستلزمة لصفاته العليا، وعلى ذكر المعاد وهو (يوم الدين) وعلى إرشاده عبيده إلى سؤاله، والتضرع إليه، والتبرىء من حولهم وقوّتهم، إلى إخلاص العبادة له وتوحيده بالألوهية تبارك وتعالى، وتنزيهه أن يكون له شريك أو نظير أو مماثل، وإلى سؤالهم إياه الهداية إلى الصراط المستقيم وهو (الدين القويم) وتثبيتهم عليه حتى يقضي لهم بذلك إلى جواز الصراط يوم القيامة، المفضي بهم إلى جنّات النَّعيم، في جوار النبيين والصدّيقين والشهداء والصالحين.واشتملت على الترغيب في الأعمال الصالحة ليكونوامع أهلها يوم القيامة، والتحذير من مسالك الباطل لئلا يحشروا مع سالكيها يوم القيامة وهم المغضوب عليهم والضّالّون.