[frame="2 10"]
{1} سنن أبي داود ومسند أحمد عن ابن عمرو {2} مسند أحمد والطبراني، وفى عمدة القاري :كانوا (أى أهل المدينة لهم أماكن فى بيوتهم) يؤوون فيه الوحوش ويتخذونها ويغلقون دونها الأبواب، والوحش أحد الوحوش وهي حيوان البر {3} سنن الترمذي وأبي داود عن صخر الغامدي {4} الآداب للبيهقي ومصنف عبد الرزاق {5} معجم الطبراني عن أنس {6} سنن الترمذي ومسند أحمد عن أبي إمامة {7} سنن الترمذي عن أبي هريرة {8} سنن الترمذي عن أبي هريرة ، وتمام الحديث لفائدة فيه عظيمة:{ فَقَالَ النَّبِيُّ: هَلْ لَكَ خَادِمٌ، قَالَ: لا، قَالَ: فَإِذَا أَتَانَا سَبْيٌ فَأْتِنَا، فَأُتِيَ النَّبِيُّ بِرَأْسَيْنِ لَيْسَ مَعَهُمَا ثَالِثٌ، فَأَتَاهُ أَبُو الْهَيْثَمِ، فَقَالَ النَّبِيُّ: اخْتَرْ مِنْهُمَا، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ اخْتَرْ لِي، فَقَالَ النَّبِيُّ: إِنَّ الْمُسْتَشَارَ مُؤْتَمَنٌ خُذْ هَذَا فَإِنِّي رَأَيْتُهُ يُصَلِّي وَاسْتَوْصِ بِهِ مَعْرُوفًا، فَانْطَلَقَ أَبُو الْهَيْثَمِ إِلَى امْرَأَتِهِ فَأَخْبَرَهَا بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ فَقَالَتِ امْرَأَتُهُ: مَا أَنْتَ بِبَالِغٍ مَا قَالَ فِيهِ النَّبِيُّ إِلا أَنْ تَعْتِقَهُ، قَالَ: فَهُوَ عَتِيقٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَبْعَثْ نَبِيًّا وَلا خَلِيفَةً إِلا وَلَهُ بِطَانَتَانِ، بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَاهُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَبِطَانَةٌ لا تَأْلُوهُ خَبَالا، وَمَنْ يُوقَ بِطَانَةَ السُّوءِ فَقَدْ وُقِيَ} {9} ورد فى الإحياء، ولم يجد العراقى له أصلاً، فهو أثر اشتهر بأنه حديث وليس بكذلك، وكذا فى كشف الخفاء. {10} البخاري ومسلم ومسند أحمد عن عائشة رضي الله عنها
أكله صلى الله عليه وسلم لمن يتدبر فيه يجد عجباً، هذا النبي الكريم بلغ من جوده وكرمه أنه وزَّع في يوم واحد ألف جمل على أربعة من أصحابه، انظر إلى هذا العطاء، وأعطى رجلاً من أصحابه غنماً بين جبلين، وساق في عمرته مائة بدنة فنحرها وأطعمها المساكين
وكان معه من أصحابه كثير من أصحاب الأموال كأبي بكر وعمر وعثمان وطلحة وغيرهم، وبذلهم أنفسهم وأموالهم بين يديه، وقد أمر بالصدقة فجاء أبو بكر بجميع ماله وعمر بنصفه، وحث على تجهيز جيش العسرة فجهَّزه عثمان بألف بغير، إلى غير ذلك، وكان صلى الله عليه وسلم وهو الحريص علينا كما قال فيه ربه: {حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} التوبة128
يعلِّمنا الهدى النبوي الكريم، والسَنن الإلهي القويم، فكان يدَّخر لكل زوجة من زوجاته قوتاً يكفيها لمدة سنة مرة واحدة، ويقول لنا: {كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ} {1}
من الإثم أن يضيع الإنسان من يعوله بحجة عبادة الله، وبحجة طاعة الله، لأن هذه الحجج يجب أن تكون مطابقة لأحوال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
وكان صلى الله عليه وسلم عنده أغنام لكنه كان حريصاً أن لا يزيد عددهم على المائة، كل ما زاد عن المائة يذبحه للضيفان، وكان له منائح ـ يعني أغنام ذات ضَرٍّ ولبن ـ يأكل من لبنها، وكان له دجاجاً، وتحكي السيدة عائشة رضي الله عنها عن أدب هذا الدجاج، وحتى عن وحش (حيوان برى) كان عند آل بيت النبى صلى الله عليه وسلم فتقول: {كَانَ لآلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَحْشٌ، فَكَانَ إِذَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اشْتَدَّ وَلَعِبَ فِي الْبَيْتِ،- وفى رواية: أسْعَرَنَا قَفْزَاً- فَإِذَا دَخَلَ رَسُولُ اللَّه ِصلى الله عليه وسلم سَكَنَ ،- وفى رواية : أقْرَدَ،- فَلَمْ يَتَحَرَّكْ كَرَاهِيَةَ أَنْ يُؤْذِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم} {2}
وكان له خيولاً، وكان له جمالاً يركبها، وكان له بغالاً، والبغل أهدئ من الجمل في الركوب والمشي، وكان له حميراً، وكان يُسمِّي كل واحدة من هؤلاء بإسم، سمَّي حماراً من هذه الحُمر بإسم يعفور، وكان حماراً مُعلَّماً، فكان النبي إذا أراد رجلاً من أصحابه يقول له: أريد فلاناً؟ فيمشي الحمار إلى أن يصل بيته فيضرب الباب برأسه، فيعلم الرجل أن الرسول صلى الله عليه وسلم يريده فيمتطي الحمار ويرجع به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومع ذلك كان صلى الله عليه وسلم هديه الأساسي في الطعام أنه لا يشبع من طعام قط، لا يأكل إلى حدِّ الشبع، وأظن أنكم تعلمون جيداً أن معظم أمراض هذا الزمن سببها الشبع، وكان يُعلِّم أصحابه على ذلك، كان الهدى الذي سنَّه لأصحابه أنهم يخرجون مبكراً إلى العمل بعد صلاة الفجر فيقول لهم: {اللَّهُمَّ بَارِكْ لأُمَّتِي فِي بُكُورِهَا} {3}
وبعد صلاة الظهر يأمرهم أن يقيلوا أي ينامون نوم القيلولة، فيقول: {اسْتَعِينُوا بِرُقَادِ النَّهَارِ عَلَى قِيَامِ اللَّيْلِ} {4}
وأيضاً: {قِيلُوا فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لا يَقِيلُ} {5}
وكان اختياره صلى الله عليه وسلم للجوع أمر ارتآه نافعاً لنفسه ولصحبه، ولم يكن اضطراراً لقلة الشيء، فقد قال صلى الله عليه وسلم: {عَرَضَ عَلَيَّ رَبِّي عز وجل لِيَجْعَلَ لِي بَطْحَاءَ مَكَّةَ ذَهَبًا، فَقُلْتُ: لا يَا رَبِّ وَلَكِنْ أَشْبَعُ يَوْمًا، وَأَجُوعُ يَوْمًا، فَإِذَا جُعْتُ، تَضَرَّعْتُ إِلَيْكَ وَذَكَرْتُكَ، وَإِذَا شَبِعْتُ حَمِدْتُكَ، وَشَكَرْتُكَ} {6}
اختار ذلك مع إمكان حصول التوسع والتبسط في الدنيا له، ولذا قال الطبرى كما حكاه عنه في فتح الباري: لأن ذلك لم يكن لعوز وضيق، بل تارة للإيثار، وتارة لكراهية الشبع وكثرة الأكل، فكان صلى الله عليه وسلم لايأخذ مما آتاه الله إلا قوت عامه فقط من أيسر ما يجد من التمر والشعير، ويضع سائر ذلك في سبيل الله.
{خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي سَاعَةٍ لا يَخْرُجُ فِيهَا وَلا يَلْقَاهُ فِيهَا أَحَدٌ، فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ: مَا جَاءَ بِكَ يَا أَبَا بَكْرٍ؟ فَقَالَ: خَرَجْتُ أَلْقَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنْظُرُ فِي وَجْهِهِ وَالتَّسْلِيمَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ جَاءَ عُمَرُ، فَقَالَ: مَا جَاءَ بِكَ يَا عُمَرُ؟ قَالَ: الْجُوعُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: وَأَنَا قَدْ وَجَدْتُ بَعْضَ ذَلِكَ فَانْطَلَقُوا إِلَى مَنْزِلِ أَبِي الْهَيْثَمِ بْنِ التَّيْهَانِ الأَنْصَارِيِّ، وَكَانَ رَجُلا كَثِيرَ النَّخْلِ وَالشَّاءِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ خَدَمٌ فَلَمْ يَجِدُوهُ، فَقَالُوا لامْرَأَتِهِ: أَيْنَ صَاحِبُكِ؟ فَقَالَتْ: انْطَلَقَ يَسْتَعْذِبُ لَنَا الْمَاءَ، فَلَمْ يَلْبَثُوا أَنْ جَاءَ أَبُو الْهَيْثَمِ بِقِرْبَةٍ يَزْعَبُهَا، فَوَضَعَهَا ثُمَّ جَاءَ يَلْتَزِمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَيُفَدِّيهِ بِأَبِيهِ وَأُمِّهِ، ثُمَّ انْطَلَقَ بِهِمْ إِلَى حَدِيقَتِهِ فَبَسَطَ لَهُمْ بِسَاطًا، ثُمَّ انْطَلَق إِلَى نَخْلَةٍ، فَجَاءَ بِقِنْوٍ فَوَضَعَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَفَلا تَنَقَّيْتَ لَنَا مِنْ رُطَبِهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَرَدْتُ أَنْ تَخْتَارُوا، أَوْ قَالَ: تَخَيَّرُوا مِنْ رُطَبِهِ وَبُسْرِهِ فَأَكَلُوا وَشَرِبُوا مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: هَذَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مِنَ النَّعِيمِ الَّذِي تُسْأَلُونَ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ظِلٌّ بَارِدٌ، وَرُطَبٌ طَيِّبٌ، وَمَاءٌ بَارِدٌ} {7}
وهذا ما تجده في قول الله: {كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ} كُل وراعي هذه النعم، وكيف أرعاها؟ بشكر الإله:
إذا كنت في نعمة فارعها فإن المعاصي تزيل النعم
وحافظ عليها بشكر الإله فإن الإله شديد النقم
{فَانْطَلَقَ أَبُو الْهَيْثَمِ لِيَصْنَعَ لَهُمْ طَعَامًا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لا تَذْبَحَنَّ ذَاتَ دَرٍّ، قَالَ: فَذَبَحَ لَهُمْ عَنَاقًا أَوْ جَدْيًا فَأَتَاهُمْ بِهَا، فَأَكَلُوا} {8}
لماذا كان يجوع النبي صلى الله عليه وسلم؟ حتى يُعلِّم أصحابه وأحبابه وأتباعه عبادة الجوع، وهل الجوع عبادة؟ نعم، فلا يستطيع أحدٌ أن يملك الدنيا بما فيها إلا إذا زهد فيها، ولا يزهد فيها إلا إذا زهدت بطنه فيما هو فيها، وهذه هي العبرة، فكان صلى الله عليه وسلم يجوع ليعلِّمهم أن هذا هو جهاد النفس الأول، وفى الأثر المشهور: {ياعائشة دَاوِمِي قَرْعَ بَابِ الجَنَّةِ؛ قالت: بماذا ؟ قال : بِالجُوعِ} {9}
وقد قيل: " إذا ذهبت البطنة جاءت الحكمة، وإذا إمتلأت المعدة خرجت الحكمة " ، والإمام على رضي الله عنه يقول في ذلك: " ما شبعت بطنٌ إلا همَّ صاحبها بمعصية " إذا الدم جرى في العروق والشرايين بعد الأكل يُفكر في أى شهوة يقضيها، وفي أى هوى ينفذه، ولذلك درَّب صلى الله عليه وسلم أصحابه على الجوع.
ويمكن أن أقول لكم حديثاً قد تسمعونه ولا تدركون أساسه، فيروى بعض كُتَّاب السيرة أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يضع الحجر على بطنه من شدة الجوع، الأئمة الكرام حرروا الأمر ـ واللغة العربية كانت في بدايتها تُكتب بغير نقط، فتوصل إمامٌ من هؤلاء الأئمة الفحول إلى أن الكلمة هنا: كان يضع الحُجز، والحُجز يعني الرباط أو الحزام الذى كان يربطه العرب على أوساطهم، وكانت كلمة الحجز مثل كلمة الحجر لأنه كان لا يوجد نقط على الحروف، لكنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يضع الحجر، لماذا؟ لأنه كان يقول: {إِنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي} {10}
فكيف يربط الحجر من شدة الجوع؟ ليس عنده جوع لأن الله يطعمه ويسقيه، الله تولاه، ومن تولاه مولاه كفاه، وبقوته سبحانه وتعالى غّذَّاه ونمَّاه، فكيف يحتاج إلى غذاء الناس؟ ولذلك قال سيدي أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه: والله ما أكل صلى الله عليه وسلم إلا لنا، ليعلِّمنا كيف نأكل، وما شرب صلى الله عليه وسلم إلا لنا ليعلِّمنا كيف نشرب، وما نام صلى الله عليه وسلم إلا لنا ليعلِّمنا كيف ننام، لأنه صلى الله عليه وسلم كانت تنام عينه ولا ينام قلبه، ولكنه كان يعلمنا الآداب الربانية في هذه الأحوال التي كان عليها صلوات ربي وتسليماته عليه.
وكان معه من أصحابه كثير من أصحاب الأموال كأبي بكر وعمر وعثمان وطلحة وغيرهم، وبذلهم أنفسهم وأموالهم بين يديه، وقد أمر بالصدقة فجاء أبو بكر بجميع ماله وعمر بنصفه، وحث على تجهيز جيش العسرة فجهَّزه عثمان بألف بغير، إلى غير ذلك، وكان صلى الله عليه وسلم وهو الحريص علينا كما قال فيه ربه: {حَرِيصٌ عَلَيْكُم بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ} التوبة128
يعلِّمنا الهدى النبوي الكريم، والسَنن الإلهي القويم، فكان يدَّخر لكل زوجة من زوجاته قوتاً يكفيها لمدة سنة مرة واحدة، ويقول لنا: {كَفَى بِالْمَرْءِ إِثْمًا أَنْ يُضَيِّعَ مَنْ يَقُوتُ} {1}
من الإثم أن يضيع الإنسان من يعوله بحجة عبادة الله، وبحجة طاعة الله، لأن هذه الحجج يجب أن تكون مطابقة لأحوال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم
وكان صلى الله عليه وسلم عنده أغنام لكنه كان حريصاً أن لا يزيد عددهم على المائة، كل ما زاد عن المائة يذبحه للضيفان، وكان له منائح ـ يعني أغنام ذات ضَرٍّ ولبن ـ يأكل من لبنها، وكان له دجاجاً، وتحكي السيدة عائشة رضي الله عنها عن أدب هذا الدجاج، وحتى عن وحش (حيوان برى) كان عند آل بيت النبى صلى الله عليه وسلم فتقول: {كَانَ لآلِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَحْشٌ، فَكَانَ إِذَا خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم اشْتَدَّ وَلَعِبَ فِي الْبَيْتِ،- وفى رواية: أسْعَرَنَا قَفْزَاً- فَإِذَا دَخَلَ رَسُولُ اللَّه ِصلى الله عليه وسلم سَكَنَ ،- وفى رواية : أقْرَدَ،- فَلَمْ يَتَحَرَّكْ كَرَاهِيَةَ أَنْ يُؤْذِيَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم} {2}
وكان له خيولاً، وكان له جمالاً يركبها، وكان له بغالاً، والبغل أهدئ من الجمل في الركوب والمشي، وكان له حميراً، وكان يُسمِّي كل واحدة من هؤلاء بإسم، سمَّي حماراً من هذه الحُمر بإسم يعفور، وكان حماراً مُعلَّماً، فكان النبي إذا أراد رجلاً من أصحابه يقول له: أريد فلاناً؟ فيمشي الحمار إلى أن يصل بيته فيضرب الباب برأسه، فيعلم الرجل أن الرسول صلى الله عليه وسلم يريده فيمتطي الحمار ويرجع به إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ومع ذلك كان صلى الله عليه وسلم هديه الأساسي في الطعام أنه لا يشبع من طعام قط، لا يأكل إلى حدِّ الشبع، وأظن أنكم تعلمون جيداً أن معظم أمراض هذا الزمن سببها الشبع، وكان يُعلِّم أصحابه على ذلك، كان الهدى الذي سنَّه لأصحابه أنهم يخرجون مبكراً إلى العمل بعد صلاة الفجر فيقول لهم: {اللَّهُمَّ بَارِكْ لأُمَّتِي فِي بُكُورِهَا} {3}
وبعد صلاة الظهر يأمرهم أن يقيلوا أي ينامون نوم القيلولة، فيقول: {اسْتَعِينُوا بِرُقَادِ النَّهَارِ عَلَى قِيَامِ اللَّيْلِ} {4}
وأيضاً: {قِيلُوا فَإِنَّ الشَّيْطَانَ لا يَقِيلُ} {5}
وكان اختياره صلى الله عليه وسلم للجوع أمر ارتآه نافعاً لنفسه ولصحبه، ولم يكن اضطراراً لقلة الشيء، فقد قال صلى الله عليه وسلم: {عَرَضَ عَلَيَّ رَبِّي عز وجل لِيَجْعَلَ لِي بَطْحَاءَ مَكَّةَ ذَهَبًا، فَقُلْتُ: لا يَا رَبِّ وَلَكِنْ أَشْبَعُ يَوْمًا، وَأَجُوعُ يَوْمًا، فَإِذَا جُعْتُ، تَضَرَّعْتُ إِلَيْكَ وَذَكَرْتُكَ، وَإِذَا شَبِعْتُ حَمِدْتُكَ، وَشَكَرْتُكَ} {6}
اختار ذلك مع إمكان حصول التوسع والتبسط في الدنيا له، ولذا قال الطبرى كما حكاه عنه في فتح الباري: لأن ذلك لم يكن لعوز وضيق، بل تارة للإيثار، وتارة لكراهية الشبع وكثرة الأكل، فكان صلى الله عليه وسلم لايأخذ مما آتاه الله إلا قوت عامه فقط من أيسر ما يجد من التمر والشعير، ويضع سائر ذلك في سبيل الله.
{خَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم فِي سَاعَةٍ لا يَخْرُجُ فِيهَا وَلا يَلْقَاهُ فِيهَا أَحَدٌ، فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ، فَقَالَ: مَا جَاءَ بِكَ يَا أَبَا بَكْرٍ؟ فَقَالَ: خَرَجْتُ أَلْقَى رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم وَأَنْظُرُ فِي وَجْهِهِ وَالتَّسْلِيمَ عَلَيْهِ، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ جَاءَ عُمَرُ، فَقَالَ: مَا جَاءَ بِكَ يَا عُمَرُ؟ قَالَ: الْجُوعُ يَا رَسُولَ اللَّهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: وَأَنَا قَدْ وَجَدْتُ بَعْضَ ذَلِكَ فَانْطَلَقُوا إِلَى مَنْزِلِ أَبِي الْهَيْثَمِ بْنِ التَّيْهَانِ الأَنْصَارِيِّ، وَكَانَ رَجُلا كَثِيرَ النَّخْلِ وَالشَّاءِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ خَدَمٌ فَلَمْ يَجِدُوهُ، فَقَالُوا لامْرَأَتِهِ: أَيْنَ صَاحِبُكِ؟ فَقَالَتْ: انْطَلَقَ يَسْتَعْذِبُ لَنَا الْمَاءَ، فَلَمْ يَلْبَثُوا أَنْ جَاءَ أَبُو الْهَيْثَمِ بِقِرْبَةٍ يَزْعَبُهَا، فَوَضَعَهَا ثُمَّ جَاءَ يَلْتَزِمُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم وَيُفَدِّيهِ بِأَبِيهِ وَأُمِّهِ، ثُمَّ انْطَلَقَ بِهِمْ إِلَى حَدِيقَتِهِ فَبَسَطَ لَهُمْ بِسَاطًا، ثُمَّ انْطَلَق إِلَى نَخْلَةٍ، فَجَاءَ بِقِنْوٍ فَوَضَعَهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: أَفَلا تَنَقَّيْتَ لَنَا مِنْ رُطَبِهِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنِّي أَرَدْتُ أَنْ تَخْتَارُوا، أَوْ قَالَ: تَخَيَّرُوا مِنْ رُطَبِهِ وَبُسْرِهِ فَأَكَلُوا وَشَرِبُوا مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: هَذَا وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ مِنَ النَّعِيمِ الَّذِي تُسْأَلُونَ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، ظِلٌّ بَارِدٌ، وَرُطَبٌ طَيِّبٌ، وَمَاءٌ بَارِدٌ} {7}
وهذا ما تجده في قول الله: {كُلُوا وَارْعَوْا أَنْعَامَكُمْ} كُل وراعي هذه النعم، وكيف أرعاها؟ بشكر الإله:
إذا كنت في نعمة فارعها فإن المعاصي تزيل النعم
وحافظ عليها بشكر الإله فإن الإله شديد النقم
{فَانْطَلَقَ أَبُو الْهَيْثَمِ لِيَصْنَعَ لَهُمْ طَعَامًا، فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لا تَذْبَحَنَّ ذَاتَ دَرٍّ، قَالَ: فَذَبَحَ لَهُمْ عَنَاقًا أَوْ جَدْيًا فَأَتَاهُمْ بِهَا، فَأَكَلُوا} {8}
لماذا كان يجوع النبي صلى الله عليه وسلم؟ حتى يُعلِّم أصحابه وأحبابه وأتباعه عبادة الجوع، وهل الجوع عبادة؟ نعم، فلا يستطيع أحدٌ أن يملك الدنيا بما فيها إلا إذا زهد فيها، ولا يزهد فيها إلا إذا زهدت بطنه فيما هو فيها، وهذه هي العبرة، فكان صلى الله عليه وسلم يجوع ليعلِّمهم أن هذا هو جهاد النفس الأول، وفى الأثر المشهور: {ياعائشة دَاوِمِي قَرْعَ بَابِ الجَنَّةِ؛ قالت: بماذا ؟ قال : بِالجُوعِ} {9}
وقد قيل: " إذا ذهبت البطنة جاءت الحكمة، وإذا إمتلأت المعدة خرجت الحكمة " ، والإمام على رضي الله عنه يقول في ذلك: " ما شبعت بطنٌ إلا همَّ صاحبها بمعصية " إذا الدم جرى في العروق والشرايين بعد الأكل يُفكر في أى شهوة يقضيها، وفي أى هوى ينفذه، ولذلك درَّب صلى الله عليه وسلم أصحابه على الجوع.
ويمكن أن أقول لكم حديثاً قد تسمعونه ولا تدركون أساسه، فيروى بعض كُتَّاب السيرة أن سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم كان يضع الحجر على بطنه من شدة الجوع، الأئمة الكرام حرروا الأمر ـ واللغة العربية كانت في بدايتها تُكتب بغير نقط، فتوصل إمامٌ من هؤلاء الأئمة الفحول إلى أن الكلمة هنا: كان يضع الحُجز، والحُجز يعني الرباط أو الحزام الذى كان يربطه العرب على أوساطهم، وكانت كلمة الحجز مثل كلمة الحجر لأنه كان لا يوجد نقط على الحروف، لكنه صلى الله عليه وسلم لم يكن يضع الحجر، لماذا؟ لأنه كان يقول: {إِنِّي أَبِيتُ يُطْعِمُنِي رَبِّي وَيَسْقِينِي} {10}
فكيف يربط الحجر من شدة الجوع؟ ليس عنده جوع لأن الله يطعمه ويسقيه، الله تولاه، ومن تولاه مولاه كفاه، وبقوته سبحانه وتعالى غّذَّاه ونمَّاه، فكيف يحتاج إلى غذاء الناس؟ ولذلك قال سيدي أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه: والله ما أكل صلى الله عليه وسلم إلا لنا، ليعلِّمنا كيف نأكل، وما شرب صلى الله عليه وسلم إلا لنا ليعلِّمنا كيف نشرب، وما نام صلى الله عليه وسلم إلا لنا ليعلِّمنا كيف ننام، لأنه صلى الله عليه وسلم كانت تنام عينه ولا ينام قلبه، ولكنه كان يعلمنا الآداب الربانية في هذه الأحوال التي كان عليها صلوات ربي وتسليماته عليه.
{1} سنن أبي داود ومسند أحمد عن ابن عمرو {2} مسند أحمد والطبراني، وفى عمدة القاري :كانوا (أى أهل المدينة لهم أماكن فى بيوتهم) يؤوون فيه الوحوش ويتخذونها ويغلقون دونها الأبواب، والوحش أحد الوحوش وهي حيوان البر {3} سنن الترمذي وأبي داود عن صخر الغامدي {4} الآداب للبيهقي ومصنف عبد الرزاق {5} معجم الطبراني عن أنس {6} سنن الترمذي ومسند أحمد عن أبي إمامة {7} سنن الترمذي عن أبي هريرة {8} سنن الترمذي عن أبي هريرة ، وتمام الحديث لفائدة فيه عظيمة:{ فَقَالَ النَّبِيُّ: هَلْ لَكَ خَادِمٌ، قَالَ: لا، قَالَ: فَإِذَا أَتَانَا سَبْيٌ فَأْتِنَا، فَأُتِيَ النَّبِيُّ بِرَأْسَيْنِ لَيْسَ مَعَهُمَا ثَالِثٌ، فَأَتَاهُ أَبُو الْهَيْثَمِ، فَقَالَ النَّبِيُّ: اخْتَرْ مِنْهُمَا، فَقَالَ: يَا نَبِيَّ اللَّهِ اخْتَرْ لِي، فَقَالَ النَّبِيُّ: إِنَّ الْمُسْتَشَارَ مُؤْتَمَنٌ خُذْ هَذَا فَإِنِّي رَأَيْتُهُ يُصَلِّي وَاسْتَوْصِ بِهِ مَعْرُوفًا، فَانْطَلَقَ أَبُو الْهَيْثَمِ إِلَى امْرَأَتِهِ فَأَخْبَرَهَا بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ فَقَالَتِ امْرَأَتُهُ: مَا أَنْتَ بِبَالِغٍ مَا قَالَ فِيهِ النَّبِيُّ إِلا أَنْ تَعْتِقَهُ، قَالَ: فَهُوَ عَتِيقٌ، فَقَالَ النَّبِيُّ: إِنَّ اللَّهَ لَمْ يَبْعَثْ نَبِيًّا وَلا خَلِيفَةً إِلا وَلَهُ بِطَانَتَانِ، بِطَانَةٌ تَأْمُرُهُ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَاهُ عَنِ الْمُنْكَرِ، وَبِطَانَةٌ لا تَأْلُوهُ خَبَالا، وَمَنْ يُوقَ بِطَانَةَ السُّوءِ فَقَدْ وُقِيَ} {9} ورد فى الإحياء، ولم يجد العراقى له أصلاً، فهو أثر اشتهر بأنه حديث وليس بكذلك، وكذا فى كشف الخفاء. {10} البخاري ومسلم ومسند أحمد عن عائشة رضي الله عنها