ديك القراءات
ابتكار جميل ذاك الديك الهولندي ، أن تضع رقيقة معدنية على شكل سهم أو ديك أعلى سطح دارك لتخبرك عن اتجاه الرياح، وعندنا في البصرة ،نوعان من الرياح ، الشرقي الحار المشبع حد الاختناق بالرطوبة ، والشمال الجاف البارد، وثمة اتجاه ثالث للرياح مسكوت عنه ، تلمح عنه الديكة ولا تشير صراحة إليه، ربما أسميه ( اتجاه القراءة).
قبل قرنين ، أعلى مبنى شركة الهند الشرقية الهولندية في العشار قريبا من بيت اصفر حيث كنت اقرأ الى جوار هاكوب الترجمان الارمني وانظر، إتجه ديك الرياح المعدني بريشه البرتقالي الى الشمال ، فكانت الريح جنوبية شرقية وكان المطر وشيكا ، وكما قال لي هاكوب يومها ان الديك يقول بصياحه:
: سيطلّ خليج البصرة ( وكان هذا اسمه قبل ان يكون خليج العجم او خليج العرب) وسيهطل علينا من السماء وليس من شط العرب.
فقلت : إبتكارهم جميل.
: لا تقل يا رجل ،هذا ديككم الأجمل، من ليالي البصرة وبغداد ريشه ولحمه الأبيض ودمه ، لكنهم فقط محوا ألوانه وصبغوه بالأورانج.
أيامها كانت الجالية الهولندية هي المتحكمة في شؤون مدينة نيويورك أو جزيرة مانهاتن التي اشتروها بدولارات لا تتجاوز الثلاثين ، وكان اللون البرتقالي طاغيا على الألوان الأخرى تخليدا لقائدهم أمير أورانج ، قائد المقاومة ضد الاحتلال الكاثوليكي الاسباني.
ومن هناك من مانهاتن أو نيويورك، أبحر واشنطن إيرفنغ ليعيش في غرناطة ويكتب عنها، وعن الأصول الأولى لديكنا – كما يقول هاكوب- الديك الذهبي ..
( قد أقترح عليكم تسميته بديك القراءات فيما بعد ، لكن لننتظر قليلا ..)
في إحدى قصصه عن الحمراء كتب واشنطن إيرفنغ عن حارس يتحرك على محور فوق أعلى أبراج القلعة ويشير إلى جهة قدوم الأعداء ، لكن هذا الحارس لم يفد الغرناطيين بشيء وهم يواجهون الجيوش الأوربية الكاثوليكية وكانت تقضم أراضيهم قطعة قطعة كما قال فرناندو زوج ابزابيلا وقائد الجيوش المحاصرة
( سألتقط الرمانة حبة حبة / والرمانة معنى كلمة غرناطة بالقشتالية)
وكان إيرفنغ بين يدي ألف ليلة وليلة ، مبتدأ الحكاية ومولدها ، ولأن الحارس الغرناطي لم يؤد دوره بصد الأعداء وإبادتهم كما كان يفعل في كل غزو، سيحول الأسبان حارس إيرفنغ الامريكي إلى حارس آخر إنما برمح هذه المرة ، لا يدور من ذاته ، إنما تدوّره الرياح ، نصبوه على محور، أعلى كاتدرائية اشبيلية ( فوق قمة مأذنة مسجد اشبيلية الذي بات كاتدرائية) وأسموا حارسهم بالخيرالدا أو عروس اشبيلية .
لكن بوشكين وكان بعيدا في روسيا لم ير تماثيلهم الحارسة ، وربما أشاح بوجهه عنها وأنصت بكل مخيلته إلى ما قاله فرناندو على أسوار غرناطة فكتب قصته الشهيرة( الديك الذهبي) وجعله يلتقط حبات الرمانة حبة حبة !
عام 1907 سينجز ريمسي كورساكوف الروسي أوبراه الشهيرة ( الديك الذهبي) في الذكرى المئوية لولادة بوشكين وهو الذي أبدع أيضا سمفونية شهرزاد ليعود بنا ثانية إلى ألف ليلة وليلة ..
ولم تكن الصين بعد نهوضها الاقتصادي المهول بعيدة عما يجري من تحولات للديك الذهبي أو ديك الرياح، فقد قرر الحزب فيها التوسع في استخدام القوة اللينة ( الثقافة) وخصص جوائز للسينما بعنوان جوائز الديك الذهبي لتنافس الاوسكار والسعفة الذهبية وغيرها .
والآن أرى ديك الرياح أعلى القبة الخضراء لدائرة الموانيء العراقية في الأبلة ، لكنه كان أزرق غامقا ويشير إلى الجنوب ، إذن الرياح شمالية ولا مطر ..
لوركا كتب عن دوارة الرياح قصيدة، هذا ما أتذكر، و ثمة مبدعون من البصرة أخذوا دوارة الرياح ،كتبوها شعرا وقصة ، ومن تونس قرأت لأبراهيم درغوثي قصة قصيرة جدا بهذا العنوان ..
لكني بعد كل هذه القراءات والتحولات والتناصات من قصص وقصائد ونُصب وتماثيل وموسيقى ورقصات وقراءة تتلو قراءة ، هل يمكن أن أصدق ما قاله هاكوب المترجم بأن الديك كان ديكنا !
وأتساءل لمن ستمنح جائزة الديك الذهبي الصينية للإبداع؟!
لشهرزاد الليالي العربية التي لم نقرأها جيدا فتناولها ايرفنغ الامريكي أم لقاريء ايرفنغ، مهندس الخيرالدا الاسباني أم لبوشكين المنصت لفرناندو الارغوني أم لكورساكوف الروسي قاريء بوشكين أم لكتابنا البصريين و العرب ، أم ، للوركا ام ل .....؟
ألا ينبغي علينا أن نعيد قراءاتنا ، نعمقها ولو قليلا ، وأن نتعرف على ديكتنا جيدا وننصت لصيحاتها الفجر من جديد ؟!
أما آن لنا أن نستثمر في القوة اللينة؟
آما آن لنا أن نخصص جوائز لحكاياتنا وحراسنا ، ونرسم لديكتنا ألوانا زاهية جديدة؟
وبعد كل هذا ألا يحق لي الآن أن أسمي ديك الرياح ذاك ب ( ديك القراءات) .
بقلم : جابر خليفة جابر