ثنائية
المثقف العربي، الذي بنى مداركه بفضل المدرسة التي تنشر معرفة كتبية لثقافة الغرب وحضارته ومفاهيمه وتصوارته عن الكون والمجتمع والفن والإبداع الثقافي، يواجه في حياته مأزقاً مزدوجاً.
ففي بلاد، تتميز ثقافة ناسها بتصورات عن الكون والفن والثقافة مغايرة لما تعلمه، يجد هذا المثقف نفسه أمام خيارين صعبين: الاغتراب الثقافي في الوطن أو التعايش بين ثقافتين لا جوامع مشتركة كثيرة بينهما.
صحيح أن مصادر ثقافته "عالمية" لكن ليس إلى درجة بسط سلطانها على جمهور بلاده ومجتمعه.
هذا المأزق يواجهه الرسام والنحات والشاعر والفيلسوف والسينمائي والمسرحي، وكل من يمت إلى القطاعات الثقافية بصلة.
مجرد ملاحظة نبتت في خاطري في تلك الليلة التي حضرتُ فيها، بداعي العمل، عرضاً موسيقياً كلاسيكياً في فندق "البستان" في لبنان.
"العرض راقٍ"، كما يتناهى إلى مسامعك، أثناء الاستراحة
. روما من فوق غير روما من تحت. روما من تحت تواجه صراعات القبائل والطوائف والسيارات المفخخة لغتها
. تنهال كلمات الإعجاب باللغات الأجنبية المعتادة على الوصف في مثل مناسبة كهذه، لأن اللغة العربية غير مطواعة في وصف حفلات الموسيقى الكلاسيكية التي نمت وترعرعت في حواضر الغرب الأوروبي.
يستوقفك في هذا العرض وجود وجوه تعرفها جيداً من خلال تمثيلها لأدوارٍ رئيسة في طوائفها وقبائلها.
الأدوار هنا تدخل في باب الكلاسيكية أيضاً لكنها غير موسيقية. ولا يمكنك عندها إلا أن تطرح تساؤلات حول نجاح هذه النخبة المثقفة المتعلمة، والتي شاءت صدف بعضها ان تلقت علومها في الغرب ذاته، في التوفيق ما بين الثقافة التي يحملها وما بين الثقافة المسيطرة في الشارع المحلي؟
ربما كان من الطبيعي، في مجتمعاتنا، الوقوع على أناس تعشق أشكالاً من الإبداعات الفنية والثقافية التي انتجها مجتمع آخر في تاريخه.
وربما كان من الطبيعي ان يكون هناك بيننا من يقيم "الصلة" بين ثقافتنا وثقافة هذا الآخر.
وربما كان الانفتاح ضرورة لكل ثقافة حتى لا تغرق بانعزاليتها.
وربما كان الإعجاب بثقافة الآخر وتبنيها كليّاً امراً يريح صاحبه ويحيله على انسجام طبيعي مع ما تلقاه من ثقافة.
كل ذلك مفهوم. ما هو غير مضمون ألا يتحوّل هؤلاء إلى "ميكروكوسم" ثقافي، أي إلى نخبة "برج عاجية" تعيش بينها وبين نفسها.
لطالما تساءلت حول قيمة ثقافة لا تشترك مع ناسها في دورة عيشهم الطبيعية، وحول قيمة ثقافة لا تدخل المجتمع بدرجة التطور التي بلغها، وحول قيمة إبداعٍ لا صلة له بالعالم الذي اُنتج فيه.
وحول إبداع لا ينتزع اعترافاً بقيمته إلا من ذوي الثقافة المسيطرة على العالم.
من يضمن، في تلك الحالات، عدم الوقوع في لعبة "تقليد" الآخر لانتزاع إعجابه؟ وهل الآخر بريء من دم هذا الصدّيق؟
إشكالية ليست سهلة الحل بمجرد طرحها. على العكس تثير من السجالات والاحتمالات ما يجعل الإجابة السهلة تبسيطية.
فكما لا يمكن قطع الصلة بالثقافات المختلفة في العالم، كذلك لا يمكن القبول بصلة تقوم بخلق نماذج مصدّعة تمثله وتزيل الثقافة المحلية وتزيحها.
عناية جابر
المثقف العربي، الذي بنى مداركه بفضل المدرسة التي تنشر معرفة كتبية لثقافة الغرب وحضارته ومفاهيمه وتصوارته عن الكون والمجتمع والفن والإبداع الثقافي، يواجه في حياته مأزقاً مزدوجاً.
ففي بلاد، تتميز ثقافة ناسها بتصورات عن الكون والفن والثقافة مغايرة لما تعلمه، يجد هذا المثقف نفسه أمام خيارين صعبين: الاغتراب الثقافي في الوطن أو التعايش بين ثقافتين لا جوامع مشتركة كثيرة بينهما.
صحيح أن مصادر ثقافته "عالمية" لكن ليس إلى درجة بسط سلطانها على جمهور بلاده ومجتمعه.
هذا المأزق يواجهه الرسام والنحات والشاعر والفيلسوف والسينمائي والمسرحي، وكل من يمت إلى القطاعات الثقافية بصلة.
مجرد ملاحظة نبتت في خاطري في تلك الليلة التي حضرتُ فيها، بداعي العمل، عرضاً موسيقياً كلاسيكياً في فندق "البستان" في لبنان.
"العرض راقٍ"، كما يتناهى إلى مسامعك، أثناء الاستراحة
. روما من فوق غير روما من تحت. روما من تحت تواجه صراعات القبائل والطوائف والسيارات المفخخة لغتها
. تنهال كلمات الإعجاب باللغات الأجنبية المعتادة على الوصف في مثل مناسبة كهذه، لأن اللغة العربية غير مطواعة في وصف حفلات الموسيقى الكلاسيكية التي نمت وترعرعت في حواضر الغرب الأوروبي.
يستوقفك في هذا العرض وجود وجوه تعرفها جيداً من خلال تمثيلها لأدوارٍ رئيسة في طوائفها وقبائلها.
الأدوار هنا تدخل في باب الكلاسيكية أيضاً لكنها غير موسيقية. ولا يمكنك عندها إلا أن تطرح تساؤلات حول نجاح هذه النخبة المثقفة المتعلمة، والتي شاءت صدف بعضها ان تلقت علومها في الغرب ذاته، في التوفيق ما بين الثقافة التي يحملها وما بين الثقافة المسيطرة في الشارع المحلي؟
ربما كان من الطبيعي، في مجتمعاتنا، الوقوع على أناس تعشق أشكالاً من الإبداعات الفنية والثقافية التي انتجها مجتمع آخر في تاريخه.
وربما كان من الطبيعي ان يكون هناك بيننا من يقيم "الصلة" بين ثقافتنا وثقافة هذا الآخر.
وربما كان الانفتاح ضرورة لكل ثقافة حتى لا تغرق بانعزاليتها.
وربما كان الإعجاب بثقافة الآخر وتبنيها كليّاً امراً يريح صاحبه ويحيله على انسجام طبيعي مع ما تلقاه من ثقافة.
كل ذلك مفهوم. ما هو غير مضمون ألا يتحوّل هؤلاء إلى "ميكروكوسم" ثقافي، أي إلى نخبة "برج عاجية" تعيش بينها وبين نفسها.
لطالما تساءلت حول قيمة ثقافة لا تشترك مع ناسها في دورة عيشهم الطبيعية، وحول قيمة ثقافة لا تدخل المجتمع بدرجة التطور التي بلغها، وحول قيمة إبداعٍ لا صلة له بالعالم الذي اُنتج فيه.
وحول إبداع لا ينتزع اعترافاً بقيمته إلا من ذوي الثقافة المسيطرة على العالم.
من يضمن، في تلك الحالات، عدم الوقوع في لعبة "تقليد" الآخر لانتزاع إعجابه؟ وهل الآخر بريء من دم هذا الصدّيق؟
إشكالية ليست سهلة الحل بمجرد طرحها. على العكس تثير من السجالات والاحتمالات ما يجعل الإجابة السهلة تبسيطية.
فكما لا يمكن قطع الصلة بالثقافات المختلفة في العالم، كذلك لا يمكن القبول بصلة تقوم بخلق نماذج مصدّعة تمثله وتزيل الثقافة المحلية وتزيحها.
عناية جابر