بين المبدأ والخيار في التسامح مع الاخر
يقول المفكر الجزائري مالك بن نبي أن: "في منطق هذا العصر لا يكون إثبات صحة الأفكار بالمستوى الفلسفي أو الأخلاقي، بل بالمستوى العملي: فالأفكار صحيحة إذا هي ضمنت النجاح"(1). والدعوة إلى التسامح، لا تخرج عن هذا النطاق في هذا العصر، وبالتالي فصحة هذه الدعوة تكمن في نجاحها، والدعوة إلى التسامح توازيها دعاوي أخرى، كالدعوة للحوار والدعوة للسلم والدعوة للتقارب. ومما يخشى على هاته الدعوات كلها أن تكون خيارات لا مبادئ، أي أن تكون شعارات تكتيكية لمرحلة معينة، في ظروف محددة.
أما الواقع فيرجح كفة الخيار، لأن أمة الجاهلية لا مبادئ لديها، بل ستجد عندهم الأوثان، وكثير من الأفكار عندنا مقدسة، ونحن نتعامل مع الواقع في حدود إيماننا بالأوثان.
في نهاية القرن الماضي، انفجرت الثورة بإيران، وكان من مزاياها أن الشعب يقدم الورود للجيش الذي يعطيه الرصاص، لكن المنطق السلمي كان عند الخميني خيارا، لأنه لجأ إلى السلاح بعد ذلك في حربه مع العراق. وبذلك غاب منطق الحوار والتسامح في النزاع مع أقرب الجيران، بل تم التراجع عن مبدأ جليل، سيكون لنجاحه أثر مهم في المنطقة بأكملها، تم التراجع عن مبد أ السلم، والذي لولاه لما نجحت الثورة. ولكن هكذا كان الخميني يفكر ولم يجعل السلم سنة لمن سيأتي بعده، أي لم يجعله سنة لقيادة التغيير، بدل الارتهان للعنف والسلاح.
في عصر متخلف مثل عصرنا، نقاش المضامين العلمية لا يجدي وليس ذا منفعة، بل يجب مناقشة المبادئ العامة. لأنه وقبل أي نقاش في منطقتنا تكون مضطرا أن تعيد مبادئ النقاش عدة مرات، وللأسف يتم اختراقها في كل لحظة، كما يتم اختراق قانون السير في الطرقات. فأنت تكون مضطرا أن تقول للجميع أن الحوار هو أفضل وسيلة لحل المشاكل، وأن تقول أن النقاش يكون بالحجة، وأن عدم الالتجاء لحجة القوة أمر ضروري، وأن الآخر يشكل كيانا يجب أن يحترم، بل أن تحسس الإنسان أن كل ما عنده قد يكون خاطئا، وأن الإنسان لا يتوفر على الحقيقة كاملة، وإلا فما جدوى البحث العلمي، وتذكر الجميع بفضائل الكلمة السواء، وأن الاختلاف حق مشروع.
ومن هذا المنطلق لا يشكل العلم إلا مبدأً من مبادئ أخرى كالتسامح والسلم والحوار والاختلاف. وبهذا يجب مناقشة العلم كمبدأ يجب الإيمان به، والإقرار بنتائجه، وإتباع سبله، لأن جيلنا لم يؤمن بعد بالعلم كوسيلة للتقدم، وحل المشاكل، والتكيف مع القوانين، واستمرار النشء وصلاحه، بل ينكر نتائج العلم، ونجد عندنا اليوم من يحرم العلم والفكر والمعرفة.
أما حينما يصبح العلم مبدآ عاماً، كجميع المبادئ الأخرى، يصبح نقاش المسائل الفكرية أمراً حل وقته، ويمكن لنا بذلك مناقشة الإسلام ومدى عالميته، التراث ومدى صلاحيته، القرآن ومدى عموميته. أما أن تناقش كل هاته الأمور بطرق عقلية، والبعض لم يؤمن بعد بالعقل والعلم كمبدأين عامين ضروريين، فهو أمر فيه خلط كبير، وهذا واحد من الأسباب التي أدت بنا إلى زمن الإيديولوجيات المتعددة، وكل مرة ينشق حزب حزبين، لأن الأفكار التي تقوم بدور المركب غابت، والذي حضر هي الأوثان والزعامات، ولا مكان للفكر والعقل.
يشكل العنف مبدأ يؤمن به البعض لقيادة التغيير، أما اللاعنف فهو إلغاء تام لهذا المبدأ. وقد لا يصح أن نقول أن السلم هو إلغاء للعنف، لأنه قد نجد من يؤمن بالمبدأين معاً، فيمارس السلم مع البعض والعنف مع البعض الآخر. ولذلك فمن الصواب أن نحسب أن الارتهان للعنف لا تلغيه إلا الدعوة إلى اللاعنف، مع الإحتفاظ بأن اللاعنف يلغي مبدأ قائما يؤمن به العديد من الناس. ومن الصواب أن نقول أن نقيض السلم هو اللاسلم، وفي هذه الحالة السلم يلغي مبدأ آخر هو اللاسلم.
وإذا كان التسامح مبدأً قائم الذات، فاللاتسامح هو المبدأ المضاد، وحينما أدعوا إلى التسامح يجب أن أنهى عن اللاتسامح.
وفي تقديري فهذا منهج جيد لإخراج الناس (خصوصا في العالم الإسلامي) من أزمة المبدأ والخيار، فقد يحدث أن تأمر الناس بالتسامح دهراً طويلا، وقد لا يتسامحون، ولكن نهيهم عن اللاتسامح يشكل منهجاً آخر، قد يكون أقوم للإنسان ذي سيكولوجية المخلوق المقهور، فالأنبياء عليهم السلام يأمرون ولكنهم أيضا ينهون، وهذه مسالة جوهرية في دعوات الأنبياء عليهم السلام يجب الانتباه إليها، واستثمارها في الدعوة إلى التغيير. والأنبياء عليهم السلام عادة ما ينهون عما ورث عن الآباء والأجداد.
فالأمر بالتسامح أساسي ولكن النهي عن اللاتسامح أكمل للعمل، والأمر بالحوار ضروري ولكن النهي عن اللاحوار يشكل إتماما للعمل، لأن سيكولوجية الإنسان المنهزم قد تحسب كل المبادئ الجميلة حلولا مؤقتة، فيسهل التخلي عنها كلما ظهرت بوادر لانفراج الأزمة، تماما مثل المريض، يتناول كل نوع من الدواء إلى أن يبرأ من مرضه، فيلقي الأدوية جانبا، ولكن الذي يجب أن نعرفه هو أن هناك وصفات لأمراض مستعصية تؤخذ مدى الحياة، وأن "الأفكار المخذولة تنتقم انتقاما مخيفا"(2) كما قال مالك بن نبي.
فنحن نرى أن الأمر بالتسامح تلقين لمبدأ أساسي في الحياة، ولكن ب(الأمر) سنلقن للناس كل المبادئ الجميلة و الضرورية، والنتيجة ستكون لا محالة اغتيال كل هاته المبادئ، عن وعي أو عن غير وعي. أما إذا قمنا بنهي الناس عن نقائض هاته المبادئ، فإننا نربيهم تربية سيكولوجية تحقق الذات التي تتوفر فيها كل الشروط الإيجابية لقيادة التغيير، وبذلك نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر.
بقلم: رشيد أوراز
يقول المفكر الجزائري مالك بن نبي أن: "في منطق هذا العصر لا يكون إثبات صحة الأفكار بالمستوى الفلسفي أو الأخلاقي، بل بالمستوى العملي: فالأفكار صحيحة إذا هي ضمنت النجاح"(1). والدعوة إلى التسامح، لا تخرج عن هذا النطاق في هذا العصر، وبالتالي فصحة هذه الدعوة تكمن في نجاحها، والدعوة إلى التسامح توازيها دعاوي أخرى، كالدعوة للحوار والدعوة للسلم والدعوة للتقارب. ومما يخشى على هاته الدعوات كلها أن تكون خيارات لا مبادئ، أي أن تكون شعارات تكتيكية لمرحلة معينة، في ظروف محددة.
أما الواقع فيرجح كفة الخيار، لأن أمة الجاهلية لا مبادئ لديها، بل ستجد عندهم الأوثان، وكثير من الأفكار عندنا مقدسة، ونحن نتعامل مع الواقع في حدود إيماننا بالأوثان.
في نهاية القرن الماضي، انفجرت الثورة بإيران، وكان من مزاياها أن الشعب يقدم الورود للجيش الذي يعطيه الرصاص، لكن المنطق السلمي كان عند الخميني خيارا، لأنه لجأ إلى السلاح بعد ذلك في حربه مع العراق. وبذلك غاب منطق الحوار والتسامح في النزاع مع أقرب الجيران، بل تم التراجع عن مبدأ جليل، سيكون لنجاحه أثر مهم في المنطقة بأكملها، تم التراجع عن مبد أ السلم، والذي لولاه لما نجحت الثورة. ولكن هكذا كان الخميني يفكر ولم يجعل السلم سنة لمن سيأتي بعده، أي لم يجعله سنة لقيادة التغيير، بدل الارتهان للعنف والسلاح.
في عصر متخلف مثل عصرنا، نقاش المضامين العلمية لا يجدي وليس ذا منفعة، بل يجب مناقشة المبادئ العامة. لأنه وقبل أي نقاش في منطقتنا تكون مضطرا أن تعيد مبادئ النقاش عدة مرات، وللأسف يتم اختراقها في كل لحظة، كما يتم اختراق قانون السير في الطرقات. فأنت تكون مضطرا أن تقول للجميع أن الحوار هو أفضل وسيلة لحل المشاكل، وأن تقول أن النقاش يكون بالحجة، وأن عدم الالتجاء لحجة القوة أمر ضروري، وأن الآخر يشكل كيانا يجب أن يحترم، بل أن تحسس الإنسان أن كل ما عنده قد يكون خاطئا، وأن الإنسان لا يتوفر على الحقيقة كاملة، وإلا فما جدوى البحث العلمي، وتذكر الجميع بفضائل الكلمة السواء، وأن الاختلاف حق مشروع.
ومن هذا المنطلق لا يشكل العلم إلا مبدأً من مبادئ أخرى كالتسامح والسلم والحوار والاختلاف. وبهذا يجب مناقشة العلم كمبدأ يجب الإيمان به، والإقرار بنتائجه، وإتباع سبله، لأن جيلنا لم يؤمن بعد بالعلم كوسيلة للتقدم، وحل المشاكل، والتكيف مع القوانين، واستمرار النشء وصلاحه، بل ينكر نتائج العلم، ونجد عندنا اليوم من يحرم العلم والفكر والمعرفة.
أما حينما يصبح العلم مبدآ عاماً، كجميع المبادئ الأخرى، يصبح نقاش المسائل الفكرية أمراً حل وقته، ويمكن لنا بذلك مناقشة الإسلام ومدى عالميته، التراث ومدى صلاحيته، القرآن ومدى عموميته. أما أن تناقش كل هاته الأمور بطرق عقلية، والبعض لم يؤمن بعد بالعقل والعلم كمبدأين عامين ضروريين، فهو أمر فيه خلط كبير، وهذا واحد من الأسباب التي أدت بنا إلى زمن الإيديولوجيات المتعددة، وكل مرة ينشق حزب حزبين، لأن الأفكار التي تقوم بدور المركب غابت، والذي حضر هي الأوثان والزعامات، ولا مكان للفكر والعقل.
يشكل العنف مبدأ يؤمن به البعض لقيادة التغيير، أما اللاعنف فهو إلغاء تام لهذا المبدأ. وقد لا يصح أن نقول أن السلم هو إلغاء للعنف، لأنه قد نجد من يؤمن بالمبدأين معاً، فيمارس السلم مع البعض والعنف مع البعض الآخر. ولذلك فمن الصواب أن نحسب أن الارتهان للعنف لا تلغيه إلا الدعوة إلى اللاعنف، مع الإحتفاظ بأن اللاعنف يلغي مبدأ قائما يؤمن به العديد من الناس. ومن الصواب أن نقول أن نقيض السلم هو اللاسلم، وفي هذه الحالة السلم يلغي مبدأ آخر هو اللاسلم.
وإذا كان التسامح مبدأً قائم الذات، فاللاتسامح هو المبدأ المضاد، وحينما أدعوا إلى التسامح يجب أن أنهى عن اللاتسامح.
وفي تقديري فهذا منهج جيد لإخراج الناس (خصوصا في العالم الإسلامي) من أزمة المبدأ والخيار، فقد يحدث أن تأمر الناس بالتسامح دهراً طويلا، وقد لا يتسامحون، ولكن نهيهم عن اللاتسامح يشكل منهجاً آخر، قد يكون أقوم للإنسان ذي سيكولوجية المخلوق المقهور، فالأنبياء عليهم السلام يأمرون ولكنهم أيضا ينهون، وهذه مسالة جوهرية في دعوات الأنبياء عليهم السلام يجب الانتباه إليها، واستثمارها في الدعوة إلى التغيير. والأنبياء عليهم السلام عادة ما ينهون عما ورث عن الآباء والأجداد.
فالأمر بالتسامح أساسي ولكن النهي عن اللاتسامح أكمل للعمل، والأمر بالحوار ضروري ولكن النهي عن اللاحوار يشكل إتماما للعمل، لأن سيكولوجية الإنسان المنهزم قد تحسب كل المبادئ الجميلة حلولا مؤقتة، فيسهل التخلي عنها كلما ظهرت بوادر لانفراج الأزمة، تماما مثل المريض، يتناول كل نوع من الدواء إلى أن يبرأ من مرضه، فيلقي الأدوية جانبا، ولكن الذي يجب أن نعرفه هو أن هناك وصفات لأمراض مستعصية تؤخذ مدى الحياة، وأن "الأفكار المخذولة تنتقم انتقاما مخيفا"(2) كما قال مالك بن نبي.
فنحن نرى أن الأمر بالتسامح تلقين لمبدأ أساسي في الحياة، ولكن ب(الأمر) سنلقن للناس كل المبادئ الجميلة و الضرورية، والنتيجة ستكون لا محالة اغتيال كل هاته المبادئ، عن وعي أو عن غير وعي. أما إذا قمنا بنهي الناس عن نقائض هاته المبادئ، فإننا نربيهم تربية سيكولوجية تحقق الذات التي تتوفر فيها كل الشروط الإيجابية لقيادة التغيير، وبذلك نأمر بالمعروف وننهى عن المنكر.
بقلم: رشيد أوراز
تعليق